تتعدد مجالات الوسطية، فهناك:
* الوسطية في العقيدة الموافقة للفطرة: باعتماد منهج القرآن والسنة والسلف الصالح في أمر العقيدة، والبعد عن اصطلاحات الجدليين والكلاميين، والاهتمام ببيان أثر العقيدة على النفوس، واعتماد طريقتي المعرفة النقلية والعقلية في العقيدة؛ لتقوية الصلة بالله سبحانه.
* وسطية الشعائر الدافعة للعمارة: فالتكاليف ليست كثيرة ولا شاقة، كما أنها لا تتعارض مع متطلبات الحياة من سعي لرزق وكدح لتأمين معاش.
* وسطية في التجديد والاجتهاد: من خلال الارتباط بالأصل والاتصال بالعصر.
* التوسط بين التمذهب والتقليد: وما أحسن ما عبر عنه الإمام ابن القيم رحمه الله؛ حيث فرق بين التقليد والاتباع؛ فالاتباع عمل بقول الغير مع الحجة والدليل، أما التقليد فهو عمل بغير دليل.
* وسطية في الفتوى: بالمقارنة بين الكليّ والجزئيّ، والموازنة بين المقاصد والفروع، والربط بين النصوص ومعتبرات المصالح في الفتاوى والآراء؛ فلا شطط ولا وكس. وقد وضع العلامة الشيخ عبد الله بن بيَّه ركائز أربعة تقوم عليها وسطية الفتوى، هي: قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، وقاعدة العرف، وقاعدة النظر في المآلات، وقاعدة تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع.
* وسطية عند الاختلاف: والخـلاف ضـربان: ضرب يقع في قضايا الأصول الكلية الاعتقادية، وفي مناهج الفهم عن الله ورسوله تنـزيلا أو تأويلا كخلاف أهل الأهواء والبدع لأهل السنة والجماعة، وهو خلاف مذموم. وضرب يقع فيما دون الأصول، وهو اختلاف مقبول، ولا بد في الاختلاف من الاتفاق على قواعد للحوار.
* وسطية في التعامل مع الآخر: فيجعل الحوار أساسًا للتعامل مع الآخر، وإعطاؤه الحرية في ممارسة شعائره، وألا يكون الخلاف دافعًا للعداء أو الاعتداء، بل العيش المشترك هو الجامع للتعاون، وأن المواطنة تقرب بين المختلفين، وتجعلهم يسعون للاشتراك في تحقيق المصالح المرجوة للجميع.
* وسطية الأحكام: وذلك من خلال تعظيم للأصول وتيسير في الفروع؛ فوسطية الإسلام تعظم الأصول التي يقوم عليها بناؤه، وتصونها عن أن تمتد لها يد التلاعب بتبديل وتحريف -كما حدث في الديانات السابقة-أو بمحاولة إفراغها من معانيها ودلالات مضمونها. وعلى النقيض من تعظيم الأصول ترعى الوسطية التيسير في الفروع؛ دفعًا للحرج، ورفعًا للأغلال والآصار، وهو منهج نبوي قائم على مبدأ: ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا.
* وسطية في التفاعل الحضاري: من خلال الفاعلية الإيجابية دون تقوقع أو استلاب، والاعتزاز بلا استعلاء، والتسامح بلا هوان، فالمسلمون أمة قائمة برأسها تتمتع بخصائصها الذاتية المتميزة، فهم كما وصفهم رسولهم الكريم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم... ».
الوسطية في المجال السياسي
والوسطية الإسلامية في المجال السياسي ترتبط بمجالَيْ العقيدة والتشريع، ولهذه الوسطية أسس فكرية ترتبط بتصور العلاقة بين الدين والدولة والعلاقة بين الدين والسياسة، كما أن لها جوانب عملية تطبيقية تتجلى في تنزيله في الوقائع السياسية المختلفة المتغيرة.
كما أنها وسطية لا تحتكر الدين، ولا توظفه لمصلحتها، كما أن الوسطية لا تقدم للناس دولةً كهنوتية، تلغي سلطة الساسة وتهمشهم، ولا هي تلغي دور علماء الدين؛ فهي وسط تجعل الساسة هم قادة التدبير، وتجعل لعلماء الدين دورهم في ترشيد سيرها.
وفي الختام:
فإن الوسطية ليست شيئًا هلاميا غير واضح المعالم، ولا هي مجرد ثقافة توضع لها الأطر، أو تقتصر على كونها غذاء عقل وإشباع نفس فحسب، بل هي منهج تفكير وحياة، وكما هي مهمة للأفراد والجماعات، فهي أيضا مهمة للحكومات، كما تمثل الوسطية سمة حضارية ترشد المسلمين في ميادين الحياة المختلفة؛ في الدعوة والحركة، والإنتاج، والسياسة، والاقتصاد، وغيرها.