مسجد الإيمان في مدينة سوداك ليس كغيره، بل هو واحد من بين مئات المساجد الأثرية التي هدمت في إقليم شبه جزيرة القرم جنوب أوكرانيا، حيث يعيش نحو نصف مليون تتري مسلم.
وبحسب مؤرخين، فإن عمر هذا المسجد لا يقل عن ثلاثمائة عام، هدمه السوفييت بعيد ترحيل التتار قصرا عن الإقليم أواسط القرن الماضي، بدعوى الخيانة خلال الحرب العالمية الثانية، لتطمس معالمه جميعها، شأنه كشأن الكثير من المساجد والمؤسسات التترية.
وفي حين أغفلت معظم كتب التاريخ هذه المأساة، بقيت شجرة توت حاضرة قرب المسجد، لتشهد على قدم وجوده، وأصالة وجود الإسلام والتتار في هذه الجزء من العالم.
عودة للحياة
وكعشرات المساجد الأخرى، رمم مسجد الإيمان من قبل اتحاد المنظمات الاجتماعية "الرائد"، الذي يعتبر أكبر مؤسسة تعنى بشؤون الإسلام المسلمين في أوكرانيا، وذلك بدعم من قبل محسنين في دولة الكويت.
وقد تم افتتاح المسجد مجددا يوم الأمس، في أجواء احتفالية حضرها كبار وصغار التتار، وممثلون عن عدة مؤسسات إسلامية وحكومية، لما لهذا الحدث من أهمية دينية وثقافية.
حضر الافتتاح د. باسل مرعي رئيس الاتحاد، وفضيلة الشيخ أمير علي أبلاييف مفتي الإدارة الدينية لمسلمي القرم، وممثلون عن حكومة الإقليم، ومجلس شعب تتار القرم.
وفي كلمة له، أكد مرعي أن عمارة المسجد تكون بإحيائه بعد بنائه، بالعبادات والطاعات والبرامج الإيمانية، داعيا مسلمي المنطقة إلى تفعيل أدوار مسجدهم القديم الجديد، ليكون منارة لهم وحصنا لدينهم وهويتهم.
أما أ. سيران عريفوف رئيس الهيئة التشريعية في "الرائد"، فقال إن غياب أدوار المساجد أثر سلبا على التتار، وكان أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ذوبانهم سلبا في المجتمع المحيط.
وأضاف عريفوف أن التتار يعولون كثيرا على عودة الحياة إلى مساجدهم، وخاصة الأثرية منها، لأنها ترتبط بتاريخهم، ولإحياء هويتهم واستعادة عاداتهم التي حرموا منها عقودا، ثم تعزيز مكانتها في نفوس أبنائهم وأحفادهم، فهي (الهوية) "الهاجس الأبرز بالنسبة لهم".
فرحة وعزيمة
جالت أعيننا بين قسمات وجوه الحاضرين لترقب مشاعرهم، التي جمعت أحزان الماضي بفرح الحاضر وأمل المستقبل، فهذا نظيم إمام المسجد، يقول إنه يوشك أن يبكي من شدة الفرحة، وسيسعى جاهدا لإحياء المسجد وتفعيل أدواره، وخاصة في المدرسة المرفقة إلى جانبه، حيث سيعلم الأطفال تعاليم الإسلام واللغة العربية.
أما عليم، فشاب يؤكد أنه سيصلي وسيتعلم الإسلام في المسجد، ليحقق ما لم يستطع فعله أجداده وأبواه من قبل، خلال حقبة حرمتهم من ممارسة تعاليم دينهم، أو حتى الكشف عن انتمائهم لغير الشيوعية.
مملكة إسلامية
وقد كان القرم (ومناطق عدة حوله) مملكة إسلامية مستقلة مزدهرة، قبل أن تصبح جزءا من دولة الخلافة العثمانية في أجزائها الشمالية.
وهنا يشير د. أمين القاسم الباحث في تاريخ القرم والمنطقة إلى أن القرم كان مملكة إسلامية لمدة 4 قرون، وكان فيها نحو 21 ألف معلم إسلامية تتري، بين مسجد ومدرسة وقصر وكتاتيب لتعليم الأطفال.
ويلفت إلى أن سيطرة القيصرية الروسية على مملكة القرم الإسلامية في العام 1783م ، ثم الحقبة السوفيتية من بعدها، دمرت معظم تلك المعالم، لتتراجع أعداد المساجد إلى نحو 300، معظمها بني من جديد.
يذكر أن تهجير التتار القسري في العام 1944 أدى إلى شتاتهم في المهجر بشمال روسيا وشرق آسيا، وتقدر بعض المؤسسات التترية أعداد التتار حول العالم بنحو 2 مليونا.