أنت هنا
إضافة تعليق
دخول الإسلام إلى أوكرانيا وتعرف الشعب الأوكراني على الإسلام يرجع إلى النصف الأول من القرن العاشر الميلادي عن طريق الرحالة والتجار المسلمين الذين كانوا يتوافدون إلى مدينة كييف عاصمة دولة (كييف – روس) محملين بالبضائع المختلفة، وهذا ما أثبتته المراجع والعملات النقدية التي عثر عليها مصكوكة بأحرف عربية يرجع تاريخها إلى القرن العاشر الميلادي.
ودون المؤرخون الأوكران فترة توافد المسلمين إلى أوكرانيا في القرن الحادي عشر وخاصة عندما كان يعمل كثير من أبناء الجاليات المسلمة في إمارة كييف في ذلك الوقت.
وقد كان دخول الإسلام إلى أوكرانيا عن طريقين أولهما الطريق الجنوبي .. عبر تركيا والدول العربية والثاني هو الطريق الشرقي عبر بلاد الفولجا والقوقاز.
وللأسف الشديد ثمة مفهوم غريب اليوم يدعي أن الإسلام ظاهرة غريبة على المجتمع الأوكراني، وأن أوكرانيا لم تعرف الإسلام إلا منذ سنوات قصيرة، ويرجع هذا الفهم الخاطئ لبعض الأوضاع المأساوية التي عاشها التاريخ الإسلامي على مدى عدة قرون، خاصة فترة الحكم الشيوعي الذي نكل بالمسلمين وحضارتهم وأعمل فيهم قتلاً وتهجيرا ليخفي الهوية الإسلامية لأهل المنطقة ويصبغها بالثقافة الشيوعية والتي أنتجت بعد ذلك علاقات معقدة بين الشعب الأوكراني وجيرانه من المسلمين.
مشوار المآسي
عندما وقعت كل من أوكرانيا وجزيرة القرم تحت سيطرة الإمبراطورية الروسية، و تنازلت تركيا عن القرم لروسيا حسب الاتفاق الذي وقع بينهما في يونيو 1774م بدأ مشوار المآسي مع المسلمين الذين أصبحت أمامهم خيارات الهجرة والإبعاد أو ترك دينهم واعتناق النصرانية.
مصادرة الحقوق الدينية والتعليمية
كما أصبح الذهاب إلى الحج من أصعب الأشياء التي ممكن للمسلم الحصول عليها لأنها تحتاج إلى موافقة السلطات الرسمية، وفي سنة 1876م حرمت السلطات الروسية على المسلمين الحج إلى بيت الله الحرام، وبدأت السلطات الروسية حملات التطهير العرقي والديني لمسلمي القرم حيث قامت السلطات في سنة 1890م بإغلاق المدارس والمساجد ومصادرة الأوقاف ومطاردة المسلمين وإجبارهم على مغادرة موطنهم، وفي بداية القرن التاسع عشر قامت القوات الروسية بإبعاد الأئمة والمعلمين وترحيلهم إلى المدن الروسية و إجبارهم أثناء الخدمة العسكرية على أكل الخنزير وكل ما هو محرم من طعام و شراب.
ونتيجة لهذا الاضطهاد والظلم المنظم من قبل روسيا على النظام التعليمي الإسلامي في شبه جزيرة القرم انخفض عدد المؤسسات التعليمية من 1550 إلى 275 مؤسسة تعليمية، ومما يزيد الأمر سوءاً تأسيس رابطة في عام 1901م تحمل اسم " رابطة ضد المسلمين " والتي من أهم أهدافها محاربة الإسلام والمسلمين، مما أدى بدوره إلى موجة جديدة من الهجرة.
وبسبب هذه السياسات القمعية والإرهابية اضطر أيضا كثير من المسلمين إلى الهجرة من موطنهم القرم، فهاجر العديد منهم إلى تركيا تقريباً أربعة ملايين مسلم من سنة 1783 – 1917م هرباً من سياسات القمع الروسية، أما الذين لم يتمكنوا من الهجرة فتم ترحيلهم إلى مدن روسيا المختلفة لتذويبهم في المجتمع الروسي، لكن من تم إبعاده و طرده من القرم كان يفقد حق العودة إلى موطنه مرة أخرى.
طمس الهوية الثقافية والدينية
ومن الواضح أن السلطات ركزت وبشدة أولاً على إبعاد المسلمين عن دينهم وموطنهم ومن ثم قامت بطمس معالم الحضارة الإسلامية، وإزالة كل شيء له علاقة بالإسلام من أرض القرم.
ففي عام 1833م قامت السلطات بالاستيلاء على المكتبات وهدمها وحرق الكتب الإسلامية وإبادتها،أما المساجد فأكثر من 900 مسجد تم هدمها و استخدامها في مجالات أخرى وحتى الآن في كثير من قرى القرم توجد معالم لتلك المساجد لمن أراد الدليل والشهادة.
ولم تكتفي السلطات بما فعلته في المساجد والمدارس بل وصلت يدها إلى مقابر المسلمين والتي تم نبشها والعبث بها، حيث سرقت منها الحجارة لاستخدامها كمواد للبناء.
هكذا كان الحال بالنسبة للقرم أما مدن أوكرانيا الأخرى فكانت تستقبل عشرات الآلاف من تتار قازان المبعدين عن بلاد نهر الفولجا، وبعد انتصار روسيا في حرب القوقاز تم إبعاد الشيشان والداغستان إلى دول الشمال والتي منها أوكرانيا.
وبرغم المتابعة و الملاحقة من جانب السلطات، إلا أن المسلمين لم يتخلوا عن دينهم أبداً، ففي كثير من المدن كان يجتمع المسلمون في أماكن خاصة للصلاة الجماعية وقراءة القرآن وإقامة الدروس الإسلامية بعيداً عن أعين السلطات.
لكن وفي منتصف القرن التاسع عشر ومع تطور الحياة المدنية للإمبراطورية الروسية بدأت السلطات في نهج سياسة إلى حد ما يمكن القول بأنها مرنة، حيث سمحت ببناء المساجد وتكوين الجمعيات الإسلامية التي تتولى شؤون المسلمين، وبالفعل تم بناء مسجدين في مدينتي لوغانسك ومكييفكة، كذلك تم إنشاء عدد من الجمعيات الإسلامية في مدن مختلفة.
أما في القرم فقد خطى المسلمون خطوات متباعدة في هذا المجال تمثلت في إنشاء غدارة دينية في مدينة سيمفروبل عاصمة القرم تولت شؤون المسلمين عبر الجمعيات الإسلامية التابعة لها في مناطق مختلفة من القرم، وقد امتازت هذه المرحلة بوجود رموز مؤثرة على الساحة الأوكرانية كان لها الأثر الكبير في انتعاش الحضارة الإسلامية منهم: إسماعيل نوري، عبدوريقي بدانسي، إسماعيل بيك جاسبيرينسكي، والذين قاموا بتغييرات إصلاحية على حياة المسلمين سميت "جديديزم" حيث قام إسماعيل نوري بإصدار الكتب والصحف التي تنادي بالفكر التجددي الذي ينص على الاندماج والتأقلم والتعايش بين المسلمين والنمط الأوروبي للحياة.
هكذا سارت حياة المسلمين حتى قيام الثورة الاشتراكية في أوكتوبر 1917م لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الإسلام والمسلمين في أوكرانيا.
القمع السوفييتي الشامل
في العام 1917م جاءت ثورة أكتوبر الاشتراكية بأيدلوجيتها القائمة على محاربة الأديان وبالأخص الإسلام و المسلمين، فقد شهدت العشرينات والثلاثينيات من القرن الماضي حرب شعواء واسعة النطاق ضد الدين والمتدينين على حدود الاتحاد السوفييتي وكانت مطرقة النظام موجهة وبقوة ذد مسلمي أوكرانيا والقرم على وجه الخصوص الأمر الذي أثر تأثيراً مباشراً على المسلمين وعلى حياتهم الدينية، فقد قام النظام وبصورة واسعة وبقسوة متناهية بإغلاق المساجد والمدارس الإسلامية والمكتبات الدينية والقبض على الزعماء الإسلاميين و تعذيبهم في السجون وكانت الدعاية البلشفية تربط وبصورة مباشرة بين التوجه الإسلامي وعدم الوعي الاشتراكي والخرافة البرجوازية.
تحت ضغط الواقعية الاشتراكية ومحاربتها للإسلام بعد المسلمون شيئا عن دينهم ودين أجدادهم، أما ذوي العزيمة و الإيمان الصادق الذين ثبتوا على دينهم فلقد بقوا و بصورة دائمة في خوف واضطهاد.
كذلك فقد قام النظام الاشتراكي بإغلاق المساجد وبصورة وحشية تمت إعادة صياغتها حتى تتحول إلى مباني للاستخدام المدني وبعضها تم هدمها وتحويلها إلى أراضي خالية لم يستفد منها أحد، فعلى سبيل المثال لا الحصر استولى النظام على المسجد الكبير في مدينة سيمفيروبل وتم تحويله إلى معاصر للزيوت، وحول المسجد الحجري بمدينة سيفاستوبيل إلى مبنى لأرشيف سلاح البحر عام 1921م، ومسجد قرية تينيستاف ببخشيسراي تم تحويله إلى مخزن للمحاصيل الزراعية و كذلك كان الحال بالنسبة لمسجد القرية المجاورة زيلونيا، أما المسجد الرئيسي في مدينة بخشيسراي فتم تحويله مع قصور ملوك القرم إلى متحف وما زال حتى أيامنا هذه متحفا يرتاده السواح عند زيارتهم لمدينة بخشسراي.
نتيجة لهذا الأعمال البشعة والوحشية في القرم وأوكرانيا لم يبق مسجد أو مبنى إسلامي إلا وقد طالته يد النظام السوفيتي بالهدم والمصادرة.
في الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن وبدون رحمة تم القضاء على كل معالم الثقافة الإسلامية أصل حضارة القرم، فلقد قام النظام آنذاك بتغيير اللغة و أسلوب الكتابة ومنع التعليم الإسلامي، وحرم استخدام الحروف العربية في الكتابة، وكذلك جمع الكتب الإسلامية من كل المدن والقرى التي يتواجد فيها المسلمون و حرقها وأبادها بصورة مزرية، كما وتمت إعادة صياغة تاريخ القرم وتاريخ الإسلام و المسلمين فيه ومحو الصبغة الدينية و القومية لسكان القرم.
كما أنه وبصورة مقصودة ومنتظمة وبحجة التنقيب عن المعادن قام النظام بالبحث والتنقيب عن الآثار الإسلامية والقضاء عليها.
هكذا تمت واحدة من أكبر الكوارث الثقافية في القرن العشرين لم يعرف العالم عنها شيء.
كذلك لم يتوان النظام الشيوعي عن اتهام التتار المسلمين سكان القرم بالتواطؤ مع الألمان في الحرب العالمية الثانية ليقوم بترحيلهم و تهجيرهم إلى أوزبيكستان وكازاخستان و سيبيريا في صورة لا إنسانية في قطارات الشحن و المواشي.
التهجير القصري الوحشي
التتار الذين عاشوا تلك المأساة يقولون: كانت تلك المأساة في شهر مايو من عام 1944م بدون أي مقدمات جاءتنا الشرطة بسلاحها وطلبت منا مغادرة منازلنا بأسرع وقت وأخذ الأشياء التي سنحتاج إليها في الطريق وحذرتنا من الرجوع مرة أخرى إلى منازلنا في أي حال من الأحوال، وقادونا بالقوة إلى محطة القطار ثم زجوا بنا في قاطرات الشحن والمواشي بدون طعام أو شراب، الشيء الذي أدى إلى وفاة الكثيرين في القاطرات وأغلبهم من الأطفال وكبار السن، ومع طول المسافة إلا أن القطار لم يكن يتوقف إلا بعد مسافات طويلة ولفترات زمنية بسيطة جداً حتى لا نستطيع دفن الموتى، وقد توفي منهم نسبة كبيرة جداً بسبب البرد والجوع والأمراض.
مرحلة البيريسترويكا (إعادة البناء)
هكذا كانت الحياة الدينية لمسلمي أوكرانيا والقرم مقبوض عليها بيد من حديد حتى جاءت البيروسترويكا (إعادة البناء عام 1985 - 1991م) التي أعطت المسلمين حرية نسبية شرع المسلمون في ظلها في تكوين الإدارات الدينية والجمعيات الإسلامية وممارسة شعائرهم الدينية، وفي نهاية الثمانينيات بدأ المسلمون في تجميع صفوفهم والعودة إلى دينهم بعيداً عن أعين السلطات، ولم يستطيع المسلمون ممارسة شعائرهم الدينية بحرية إلا بعد أن أعلنت أوكرانيا استقلالها بعد سقوط الإتحاد السوفييتي و انتهاء الحقبة الشيوعية.
من جهتها فقد وعت أوكرانيا المستقلة الخطأ الكبير الذي ارتكبه النظام الشيوعي في محاربة الأديان، لذلك لم تعطي شعبها فقط حرية اعتناق الدين والعبادة، بل أعطت كل الديانات الحق في استرجاع كل المباني والممتلكات التي سلبها منها النظام الشيوعي، واليوم نستطيع أن نقسم مسلمي أوكرانيا إلى ثلاث أقسام:
أولاً: المسلمون سكان البلاد (الأوكرانيون)
لا توجد إحصائية دقيقة لعددهم وهم الذين اعتنقوا الإسلام إعجاباً بتعاليمه وصدقه وهم بفضل الله في تزايد مستمر.
ثانياً: المسلمون المهاجرون الذين يعيشون على أرض أوكرانيا
وهم المسلمون القادمون من آسيا الوسطى وهم كلطاجيك والأوزبيك والكازاخ والأذربيجانيون، وقد ظهروا في هذه الأماكن نتيجة للتهجير القهري أثناء الحكم الشيوعي الذي عمل على اصطناع المجاعات في المواطن الأصلية لهم، مما اضطرهم إلى الهجرة والبحث عن لقمة العيش في أوساط الروس والأوكرانيين، فخرج الكثير منهم اختياراً أو إجبارياً إلى هذه المناطق.
ثالثاً: مسلمو شبه جزيرة القرم
وهم الذين عادوا إلى موطنهم الأصلي شبه جزيرة القرم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي من المناطق التي هجروا إليها، مطالبين باستيراد جميع حقوقهم المسلوبة منهم ولا يزال كثير منهم دون مسكن ولا مأوى.