أنت هنا
إضافة تعليق
"ما أضيقَ العيشَ لولا فسحة الأملِ"، كلمة منذ الصِّغَر تَطرق مسامعنا، فنمرُّ عليها مرور الكرام عابرين، فهلا توقَّفْنا معًا لنعيش مع تلك الكلمات لنَجني مِن ثِمارها اليانعة التفاؤل.
الأمل بالله عنوان النفوس السوية المؤمنة؛ فبعد أن تَغيب الشمس تُشرق في صبيحة اليوم التالي، وبعد أن يبدأ القمر هلالاً يصير بدرًا، وبعد أن يَجزر البحر يمد، وبعد أن يكون الإنسان طفلاً يَكبر ليكون عالم الغد، وحينما يذنب العبد فهناك باب التوبة مفتوح على مصراعَيه، وربٌّ يُنادي عباده: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ﴾ [الزمر: 54]، وبعد أن تتجرع الأم لأواء الحمل يأتي يوم الولادة لتضَعَ وليدها، وحين يأتي الخريف ويَذبل بهاء الأشجار يأتي الربيع ليَكسو ذلك الحُطام بالخُضرة والنضارة فيفيح عبير النَّدى، ويقطر في سكون الليل بالأمل، وحين تشتدُّ الظروف يأتي الفرج وكأنه سحابة مُحمَّلة بالقطر تَهطل على تلك القلوب المتلهفة لغيث الأمل.
إنَّ قوة الثقة بالأمل والمؤمل تكون من قوة الواعد وقوة عِلمه وإدراكه؛ فالله - جلَّ جلاله - وعد عباده بالنصر، وأمَّلَهم بالخير المُطلَق، فمِن هنا تكمُن قوة الثقة والأمل بالوعد الصادق، وفي كتاب الله مِن بشارات الأمل الكثير الكثير:
قال تعالی: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6]، فلن يَغلب عسْرٌ يُسرَين، فتلك الآيات تبثُّ في النفس رُوح الأمل، وتَنبض في قلب الحياة بالتفاؤل، فهي مِن أصدق القائلين، ومَن أصدق مِن الله قيلاً جلَّ في علاه؟!
﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 126].
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30].
بشارات الله بالأمل والطمأنينة، والفلاح للمؤمنين والأتقياء والمتوكلين - لا تَنتهي ولا تَنقضي، فأين القلوب النقية التقية التي تؤمن بها كإيمانها بوجودها، فوالله لو صدقنا مع الله حق الصدق بالقول والفعل والاعتِقاد لرأينا العجَب.
ومِن عطْر السنَّة يفوح شذا التفاؤل والأمل:
عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا عدوى، ولا طِيَرة، ويُعجبني الفأل))، قالوا: وما الفأل؟ قال: ((الكلمة الطيبة)).
الشرح:
قولُه: ((ويُعجبني الفأل))؛ أي: يسرُّني، والفأل بيَّنه بقوله: ((الكلمة الطيبة))، فـ"الكلمة الطيبة" تُعجبه صلى الله عليه وسلم؛ لما فيها مِن إدخال السرور على النفس والانبساط، والمضيِّ قدمًا لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا مِن الطِّيَرة، بل هذا مما يُشجِّع الإنسان؛ لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده طمأنينة وإقدامًا وإقبالاً؛ (ابن عثيمين)، بل وتفاؤلاً وأملاً بكل ما هو موعود وحسن من عند الله تعالی.
شواهد:
يريد المرء أن يُعطى مُناه
ويَأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرءُ فائدتي ومالي
وتقوى الله أفضلُ ما استَفادا
|
••••
ولَرُبَّ نازلةٍ يَضيقُ بها الفتى
ذَرْعًا وعند الله مِنها المَخْرَجُ
ضاقتْ فلما استحكمتْ حلَقاتها
فُرِجَتْ وكنتُ أظنُّها لا تُفرَجُ
|
القائل: الإمام الشافعي.
• تنتهي قيمة الحياة وتُسترذل إذا عاش الإنسان فيها بلا هدف وأمل نبيل؛ (إبراهيم جاسم).
• الأمل كخارطة النجاة في أرض الفلاة، فإياك أن تفقد الخارطة وهي الأمل بعد الله؛ (إبراهيم جاسم).
• يُمكن للإنسان أن يعيش بلا بصر، ولكنه لا يمكن أن يعيش بلا أمل.
• الأمل هو تلك النافِذة الصَّغيرة، التي مهما صَغُر حَجمُها، إلا أنها تفتح آفاقًا واسعة في الحياة.
• الناس معادِن؛ تصدأ بالملل، وتتمدَّد بالأمل، وتَنكمِش بالألم.
• الثِّقَة بالله أزكى أمل، والتوكُّل عليه أوفى عمل؛ (مصطفى صادق الرافعي).
• الإنسان دون أمل كنباتٍ دون ماء، ودون ابتسامة كوردة دون رائحة، ودون إيمان بالله وحش في قطيع لا يرحم؛ (يمان السباعي).
• المتفائل يقول: إن كأسي مملوءة إلى نصفها، والمتشائم يقول: إن نصف كأسي فارغ.
• أجمل وأروع هندسة في العالم أن تَبني جسرًا من الأمل على نهر مِن اليأس.
رسول الله يشكو إلى الله ولا ييئس:
بعدما لاقى رسول الله ما لاقَى مِن أهل الطائف من الحجارة والسباب، وجد حائطًا (حديقة) فأسرع إليه يحتمي به، دخل رسول الله إلى الحائط، وهو مُثْقَل بالهُموم والأحزان والجراح، فأسرع إلى ظلِّ شجرة وجلس تحتها وأسند ظهره إليها، ومدَّ يده إلى السماء، وانهمرتْ عبراته وهو يَدعو بدعاءٍ ما دعا به قبل ذلك، وما دعا به بعد ذلك، دعاء يُعبر عن مدى الألم والحزن والهم والغم الذي شمل كل كيان رسول الله، وقد أُغلقتْ أمامه كل الأبواب إلا هذا الباب الذي لا يُغلق أبدًا، باب الرحمن، فهو باب الأمل الوحيد الذي لا يُقلق إطلاقًا.
ورغم تلك الظروف الحالكة والتنكيل مِن قومه له ولأصحابه صلى الله عليه وسلم لم يَنتقِم لنفسه؛ فهو الرحمةُ المُهداة، ولم ييئس من هدايتهم، فكانت الرحمة تفيض من فؤاده الرحوم، والأمل يتفجَّر في داخله بهداية قومه.
أرسل الله تعالى إلى نبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم ملَك الجبال، فقال: إنَّ الله أرسلني لتأمرني بما شئتَ، فإن شِئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين - وهما جبلان عظيمان بمكة - فقال: ((لا يا أخي، دعهم؛ فلعلَّ الله أن يُخرج مِن أصلابهم مَن يوحِّد الله لا يشرك به شيئًا))، فلم ييئس صلى الله عليه وسلم، بل كان ينظر بثقة الله، ويسير على ضوء شمس الأمل، فإنها وإن غابت لا بدَّ أن تعود في الغد لتشعَّ وتنشر ضياءها.
خاتمة:
الأمل سرُّ الحياة، مَن عرفه سعد، ولو فقد كل شيء.
الحديث عن الأمل مُسعد، فكيف بمن عاش ظروفه، واستبشر بقدومه، وذاق حلاوته، وتفيأ ظلاله، ورفل في أكنافه، فكن أنت ممن أسهَم في بثِّ الأمل في نفوس وغياهِب الآخرين.
كن أنت بإيمانك وأخلاقك ومالك أملاً لغيرك؛ فبالمال تَستطيع أن ترسم بسمة أمل وتُسهم في شفاء مريض وتفريج كربه، وإعانة ضعيف ولمِّ شتات أسرته، وبالخلُقِ النَّبيل الراقي كذلك، ولنا في سيد الخَلق وحبيب الحق الأسوة الحسنة في الأمل والتفاؤل وعمله الصالح في إدخال السرور والأمل على الآخرين، وكل ما يُسعد في الدارين؛ ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، فكيف ييئسنَّ مَن يعبد الرحمن الرحيم؟ وكيف ييئس من يعبد اللطيف الكبير العزيز الناصر القهار السميع المجيب، ومن له ما لا يُحصى مِن أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى؟ فأنت مع الذي يُجيب المضطرَّ إذا دعاه، فلا تُغلق أبوابه، وهو القائل - جل في علاه -: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 123]، فإنَّ الأمر كله راجع إليه؛ أمر الغيب، وأمر السموات والأرض، وأمر الحياة، وأمرك كله من دون استِثناء، فاعبده وتوكل عليه، كما قال؛ فهو على كل شيء قدير، وكن متفائلاً مؤملاً واثقًا بمولاك.
وصلی الله وسلم علی نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن تَبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.