أنت هنا
الخضر عليه السلام ...والإصلاح الإجتماعي » إضافة تعليق
إضافة تعليق
يتوالى المشهد القرآنى فى سورة الكهف في جملة من الأسرار التى تتكشف رويداً رويدا مع نهاية كل قصة كطبيعة الحال فى مسمى السورة ، ذلك الكهف الملىء بالأسرار دائماً والذى آوى إليه (فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى ).
والكهف وإن كان في حياة الناس رمزاً للسر ، فإنه كسورة قرآنية قدم صورة نموذجية لما ينبغى أن تكون عليه الحقيقة ... فكانت السورة بحق ( رحمة من عندنا ) .. نستعين بها على فهم حقائق الحياة النموذجية من خلال كهوف وأسرار .. اختلف فيها علم الأرض عن علم السماء .
هذا التباين بين علم الأرض وعلم السماء ظهر جلياً فى موضوعنا بيت القصيد ... وهى رحلة العبد الصالح – الخضر عليه السلام - مع موسى عليه السلام، حيث كان رمزاً لعلم السماء.. وموسى رمزاً لعلم الأرض .
لقد كانت جملة المشاهد التى مررنا عليها كثيراً فى ثنايا القصة هي ثلاثية السفينة والغلام والجدار ... وقد جاء العبد الصالح لينطلق فى حركة الحياة ومعه موسى عليه السلام يراقب ويشاهد كما كان كذلك يعترض ويعاتب ولا يستطيع مع أفعال العبد الصالح صبراً بل كان يعترض وفقاً للعلم الظاهر الذى خفي عليه العلم الباطن ، وما أرسل الله العبد الصالح لموسى إلا ليكشف له عن كهوف الحياة وما ينطوى فيها من أسرار ..لا يعرفها إلا من ( لا تدركه الأبصار ) .
لقد كشف حادث السفينة عن فساد الملك أو الحاكم ،وكشف حادث الغلام عن فساد النشىء او الأسرة .. كما كشف حادث الجدار عن فساد المجتمع أو الرعية .. أي أن ثلاثية السفينة والغلام والجدار .. كانت رموزاً لفساد عمّ وطمّ .. فكان العبد الصالح ( رحمة من ربك ) ليصلح هذا الفساد ... وإن كان أهل الأرض من تعودهم حسبوا أنه وضع طبعي فألفوا معه حركة تلك الحياة دون أن يحركوا ساكنا .
السفينة كانت لقوم ضعفاء شرفاء ... كذلك الغلام كان أبواه من هؤلاء الضعفاء الشرفاء .. الذين سيصطدمون يوماً مع عتاة جبارين أقوياء ..هم أهل القرية البخلاء . والغلام الذى قتله الخضر كان يحمل فى طبيعته خبث فئة الظالمين الأقوياء .. كحال ذلك الملك الظالم :الرمزالأكبر لكل جبار عنيد ... فكانت الثلاثية اصطداماً بين فئتين ... فئه ضعيفة مسكينة ... وفئه قوية متجبرة ..و جاء العبد الصالح ( رحمة من عندنا ) ليكشف سر الله إلى الأرض بضرورة العض على كل ظالم والضرب بيد من حديد على كل متكبر جبار .
إن الإصلاح الإجتماعى الذى قدمه لنا العبد الصالح ، كان مراد الله فى الأرض .. ولقد ختم القصة وأوضح الهدف في أن كل شىء تم.. كان بمراد الله ( وما فعلته عن أمرى )
ولكننا نستطيع أن نخرج بثلاثة وسائل ناجعة يمكن الاستعانة بها عند تنفيذ أي مشروع اصلاحى .
1- استعمال الكيد للوصول إلى الهدف المشروع :
إننا نؤكد أن الهدف المنشود يجب أن يكون مشروعا أولاً قبل اللجوء إلى الحيلة واستعمال الكيد ... والكيد هو التدبير فى خفاء وقد عرفنا ( إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) .. ولكن كيد الله فوق كل كيد : ( إنهم يكيدون كيدا ، وأكيد كيدا ، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) ( الطارق ، 15-17 ) ، وما كان كيد العبد الصالح واستخدامه الحيلة فى خرق السفينة إلا ليفر هؤلاء النفر المساكين الذين يعملون فى البحر من ذلك الملك الذى كان يأخذ كل سفينة غصباً .
وتأمل معى – عزيزى القارىء – أليس هذا الكيد الذى هو من تدبير الله فى القصة كلها – أليس مشابهاً لمرحلة مبكرة فى قصة سيدنا موسى فى طفولته والذى غفل عن إدراك المغزى بطبيعته البشرية مع العبد الصالح عندما قام بخرق السفينة ... ففى مرحلة الطفولة لجأت أم موسى إلى الكيد واستعمال الحيلة بوحي من الله ( أن أقذفيه فى التابوت ، فاقذفيه فى اليم ، فليلقه اليم فى الساحل ، يأخذه عدو لى وعدو له ، والقيت عليك محبة منى ، ولتصنع على عينى ) ( طه / 39 ) ... ما أجمل كيد الله والوضع مشابه وموسى وهو طفل ... حيث كان فى عرض البحر ضعيفاً كهؤلاء المساكين الذين يعملون فى البحر – وقد القته أمه كيداً فى البحر خوفاً من الفرعون الظالم .. وكذلك قام العبد الصالح بخرق السفينة لينجو المساكين من الملك الظالم .. وكل ذلك بكيد الله .. وعلم الله .. وتقدير الله .. ليشرح الخضر عليه السلام فى القصة .. الفرق الشاسع بين علم الأرض .. وعلم الكون كما تأمل معى – عزيزى القارىء – الكيد الذى لجا اليه سيدنا يوسف عليه السلام .. ( كذلك كدنا ليوسف ، ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك إلا أن يشاء الله ) ( يوسف / 76) ...ويوسف هنا ... ألهمه الله ذلك الكيد ليصل إلى الهدف المشروع بأن يأوى اليه أخاه فى مصر .. حتى تتكشف أسرار قصته الرؤيا التى رآها وتتضح خيوطها عند نهاية الأحداث ، حيث يسدل الستار فى مصر .. يسجد ليوسف إخوته .. والأبوان على سرير الملك بجوار يوسف : ( يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل ، ، قد جعلها ربى حقاً ) ( يوسف / 100) . ولتعلم قارئي الكريم إن هى إلا الأسباب الظاهرة للغاية المضمرة ، والستار الذى تراه العيون لليد التى لا تراها الأنظار ولا تدركها الأبصار ..هي يد المدبر المهيمن العزيز الغفار .
2- المبادرة فى درء المفاسد :
والمفسدة هنا ... كانت هذا الغلام الذى( كان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا )( الكهف / 80 ) وحكمة الله فسرها العبد الصالح بأن الله سيعوض الأبوين ولداً آخر ( خيراً منه زكاة ، وأقرب رحماً ) ( الكهف / 81) وتأمل معى – عزيزي القارىء – الوضع المشابه لموسى عندما دخل مدينة فى مصر ( على حين غفلة من أهلها ) ..وسارت القصة .. وانتهت بقتل موسى واحداً من أهل مصر ... ليأتى الناصح الأمين الذى يطلب من موسى الخروج قائلاً له : ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فاخرج إنى لك من الناصحين ) ( القصص / 20) وخرج موسى بالفعل وبدأ مرحلة جديدة فى حياته فى أهل مدين . وعوضه الله خيراً فى المكان الجديد .. وفى زمن آخر جديد .
إن موسى لم يستطيع صبراً مع حادثة قتل الغلام ، وهذا الأمر إذا رآه أي منا يرفضه كذلك ،لأنه ببساطة : قتل نفس زكية بغير نفس، ولكن .. تقرير العبد الصالح أن هناك تدبيرا خفياً من الله .. ودرء المفسدة هذه والمتمثلة فى الغلام هى إصلاح اجتماعى لحال الأبوين لتبرز الحقيقة بعد هذا الظاهر الذى لا يفهمة البشر فى صورة تعويض إلهى بغلام آخر يخفض لأبويه جناح الذل من الرحمة .. ليتغير حال النشىء والأسرة عما قريب بتدبير الله المطلوب .
3- المبادرة فى جلب المصلحة والعمل الصالح :
وهنا ننتقل إلى الدرس الثالث فى الإصلاح الإجتماعى .. وخلاصته أن العمل الصالح لا يذهب .. ولا يضيع ، ففى القرية التى استطعما موسى والخضر أهلها فأبوا أن يضيفوهما .. كان الاثنان بمثابة غريبين دخلا إلى قرية وهما فى حالة جوع شديد .. أبسط الأشياء أن القوم كرام .. إذا دخل غريب القرية أطعموه ولو لم يكن جائعاً أو على الأقل عرضوا عليه الطعام .. فإذا كان جائعاً وجب عليه إطعامه .. ولكن أهل هذه القرية التى دخلها موسى والعبد الصالح قابلوهما بلؤم ونذاله .. ذلك أن موسى والعبد الصالح كانا جائعين وغريبين طلبا الطعام من أهل القرية .. ولم يطلبا طعاماً فاخراً .. أو مائدة تحوى عشرات الأصناف .. ولكنهما طلبا لقمة تقيم أودهما وتسكت جوعهما .. فماذا فعل أهل القرية .. أبوا .. رفضوا أن يطعموهما حتى هذه اللقمة الصغيرة .. وإذا بالعبد الصالح يجد جداراً متهدماً فى القرية فيبنيه ويجمله ويجدده ... ولم يطق موسى صبراً – هؤلاء الناس رفضوا إعطاءنا لقمة ونحن جائعان .. وأنت تقوم بهذا العمل لهم مجاناً تقدم لهم خدمة .. تبنى لهم جداراً متهدماً .. جزاء على هذا اللؤم .. وهذه النذاله .. وتأتى الحقيقة المستورة لتبين لموسى عليه السلام الحكمة فى بناء الجدار .. فهذا الجدار لم يكن خيراً لأهل القرية الذين تخلو عن مبادىء الشهامة .. بل كان خيراً لأبناء رجل صالح يخشى عليهم من أهل القرية الذين لا يرعون عهداً ولا يطعمون جائعاً .. ولأنهم يفعلون ذلك لا يطعمون الجائع .. ولا ينفقون شيئاً فى سبيل الله .. فقد منع الله سبحانة وتعالى عنهم الخير .. وأبقاه لأولاد رجل كان صالحاً وتوفاه الله .. ذلك أن العمل الصالح للأب يبقى لأولاده فى الدنيا وينفعهم
وتأمل قارئي الكريم .. أليس فى حياة موسى السابقة موقفاً مشابهاً قدم فيه عمل الخير وجلب المصلحة للناس ولم يفكر فى الأجر الذى عاتب عليه العبد الصالح عندما بنى الجدار ولم يتخذ عليه أجراً ... لقد رفع موسى . وكان معروفاً بالقوة والمنعة .. الحجر عن بئر مدين وسقى الغنم لابنتى العبد الصالح فى سورة ( القصص ) وأغلب المفسرين يقولون إنهما إبنتا سيدنا شعيب عليه السلام ... ولكن اتضح فيما بعد .. وبعد فترة ليست بالطويلة أن فى عمل الخير هذا.. الخير العميم لسيدنا موسى حيث تقاضى أجره الذى لم يطلبه من تقرير كلام سيدنا شعيب بالزواج من إحدى ابنتيه على أن يأجره ثمانى حجج ، فسبحان مقدر الأقدار ، وعالم الأسرار .. وما نحن إلا كالواقفين وراء الأستار ، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار – وكأننا نردد ما قاله النبي المختار : ( لو صبر أخى موسى .. ) ، نعم .. لو صبر .. لعلمنا الكثير مما تخفيه كهوف الحياة .. التى توارى الحقائق عنا .
ولقد تعلمنا من هذه القصة تلك الخلاصة : أن على الإنسان ألا يغتر بظواهر الأشياء .. وأن يعلم أن هناك حقائق مخفية .. وليعلم كل إنسان أن كل قدر قد يقع عليه ليس له فيه اختيار .. فيه حكمة .
والحكمة ليست دائماً ظاهرة .. ولقد حاول العبد الصالح ( الخضرعليه السلام ) الإصلاح وفق علم الله .. وتقديره .. ( وما فعلته عن أمرى ) .. ونحن هنا .. نتأمل ونتعلم ، ،
المنشاوي الورداني
أرقام وعناوين مقر المجلس في العاصمة كييف:
Dehtyarivska Str., 25-a, kyiv 04119
هاتف: 4909900-0038044
فاكس: 4909922-0038044
البريد الإلكتروني: info@muslims.in.ua