أنت هنا
إضافة تعليق
إذا أردنا أن نتلمس الحكمة من رحلة الإسراء والمعراج المباركة، فقد عدَّد السيوطي مجموعة طيِّبة منها، فقال عن الحكمة من الإسراء: إنما كان الإسراء ليلاً لأنه وقت الخلوة والاختصاص عُرْفًا، ولأن وقت الصلاة التي كانت مفروضة عليه في قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2].
ويقول الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة: "الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحقّ لمعاندة مَن يُريد إخماده؛ لأنه لو عُرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان والإيضاح، فلمَّا ذَكَر أنه أُسْرِيَ به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات بيت المقدس كانوا قد رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلمَّا أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صحَّ خبره في ذلك لزم تصديقه في بقيَّة ما ذَكَرَه، فكان ذلك زيادةً في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند".
ومع ما ذُكِرَ من حكمة إسراء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس أوَّلاً فإن هناك دلالة أخرى على مدى ما ينبغي أن يُوجَد لدى المسلمين في كل عصر ووقت، مِنَ الحِفَاظِ على هذه الأرض المقدَّسة، وحمايتها من مطامع الدُّخلاء، وأعداء الدين، وكأنَّ الحكمة الإلهيَّة تُهِيب بمسلمي هذا العصر أن لا يهينوا، ولا يجبنوا، ولا يتخاذلوا أمام عدوان اليهود على هذه الأرض المقدسة.
وأمَّا الحكمة من المعراج فإنَّ في دلالة اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للَّبن دون الخمر، دلالة رمزيَّة على فطرة الإسلام ونقاوته الأصيلة، الموافقة للطباع البشريَّة كلها، كما أن في بقاء أبواب السماء مغلقة حتى استفتح جبريل عليه السلام ولم تتهيَّأ له بالفتح قبل مجيئه أنها لو فُتِحَت قبلُ لظُنَّ أنها لا تزال كذلك، فأُبْقِيَتْ لِيُعْلَم أن ذلك لأجله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الله تعالى أراد أن يُطلعه على كونه معروفًا عند أهل السموات؛ لأنه قيل لجبريل لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبُعث إليه؟ ولم يقل: مَنْ محمد؟ مثلا.
وقال السيوطي أيضًا: "الحكمة في كون آدم في الأُولى أنه أوَّل الأنبياء وأوَّل الآباء، وهو أصلٌ فكان أوَّلاً في الآباء، ولأجل تأنيس النبوَّة بالأُبُوَّة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدًا من محمد صلى الله عليه وسلم، ويليه يوسف؛ لأنَّ أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنَّة على صورته، وإدريس قيل: لأنه أوَّل مَنْ قاتل للدِّينِ فلعلَّ المناسبة فيها الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالمقاتلة ورفعه بالمعراج؛ لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، والرابعة من السبع وَسَط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، وموسى أرفع منه لفضل كلام الله، وإبراهيم لأنه الأب الأخير، فناسب أن يتجدَّد للنبي بلُقْيَاه أُنْس لتوجُّهه بعده إلى عالم آخر، وأيضًا فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع؛ فلذلك ارتفع عنه إلى قاب قوسين أو أدنى".
وقال أيضًا: اقتصر الأنبياء على وصفه بالصالح، وتواردوا عليها؛ لأن الصلاح تشمل خلال الخير؛ ولذا كرَّرها كلٌّ منهم عند كل صفة.
وقد ذكر القرطبي كذلك أن الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة، قيل: لأنه أوَّل من تلقَّاه عند الهبوط؛ ولأنَّ أُمَّته أكثر من أُمَّةِ غيره؛ ولأنَّ كِتَابَه أكبر الكتب المنزَّلة قبل القرآن تشريفًا وأحكامًا، أو لكون أُمَّة موسى قد كُلِّفت من الصلوات بما لم تُكَلَّف به غيرُها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى عليه السلام على أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، ويُؤَيِّد ذلك ما ذُكِر في الرواية السابقة بقوله عليه السلام: "أنا أعلم بالناس منك".
ولعلَّ الحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء والمعراج أنه صلى الله عليه وسلم لمَّا عُرج به في تلك الليلة تعبَّد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأُمَّته صلى الله عليه وسلم تلك العبادات كلها؛ يصليها العبد في ركعة واحدة، بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، وفي اختصاص فرضيتها بليلة الإسراء إلى عظيم بيانها؛ ولذلك اختصَّ فرضها بكونه بغير واسطة بل بمراجعات تعدَّدت.
ونضيف إلى ذلك أن الله تعالى أراد أن يُعِدَّ رسوله لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلاميَّة، هذه المرحلة تُشبه المرحلة التي رأى فيها موسى آيات الله تعالى، وهي مرحلة مجابهة فرعون؛ فقد قال الله تعالى عن موسى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 22-23].
فموسى الذي سيقابل فرعون الطاغية قد هُيِّئَ بهذه الرؤية لاحتقار كلِّ القوى الأرضيَّة ما دامت معه قوَّة الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا بالصبر طيلة الفترة المكية، ثم إنه بعد الهجرة أمر بالمجابهة، وكان الإسراء والمعراج قبل الهجرة بقليل -بعام واحد على أصحِّ الأقوال- فكانت رؤية آيات الله الكبرى تمهيدًا لهذه المرحلة التي سيقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقلة من أصحابه في وجه الدنيا كلها، فقال تعالى في أوائل سورة النجم عن المعراج: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18].
فبهذه الحادثة الجليلة أوضح الله تعالى بها أنه قادر على كل شيء، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم الفقير المعذَّب هو وأصحابه في مكة استطاع ربُّه جلَّ وعلا أن يوضِّح له مدى الضآلة التي يعيش فيها هؤلاء الكفرة، بل جعله الله عز وجل خير خلق الله تعالى، فبإمامته للأنبياء في المسجد الأقصى وعروجه على الأنبياء الصالحين في السموات السبع، ثم وصوله لسدرة المنتهى يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُلبس من العظمة الربانيَّة رداءً لم يلبسه أحدٌ من قبله، ولن يلبسه أحد من بعده.
وعلى كُلٍّ، فحادث الإسراء والمعراج لم يكن إلاَّ درجة من درجات التكريم، ووسيلة من وسائل التثبيت، ولونًا من ألوان الاختبار، تجلَّى به على عبده ونبيِّه، وأسبغ عليه مِن بحار الفيض والإمداد ما تمكَّن به في مدَّة وجيزة أو ساعات معدودة أن يكشف عن طريق المعاينة كثيرًا من آيات ربِّه وعجائبه، في أرضه وسمائه، أَسْرَى به من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، إلى حيث شاء ربُّ العزَّة والملكوت.
وبعد؛ فهذا هو -كما يقول الشيخ محمود شلتوت- حادث الإسراء والمعراج، وإذا كان لنا أن ننتفع بذكرياتنا فلنذكر به فضل الله على نبيِّه الذي جاهد في تثبيت هذا الدين، وإسعاد الإنسانيَّة به، ولننتهج في ذلك خُطَّته حتى نحوز رضا الله وإسعاده، ولنذكر به أيضًا أن الله فرض في تلك الليلة على نبيِّه وأُمَّته -وقد طُوِيَت المسافاتُ وزَالَت الحُجُب- خمسَ صلوات في اليوم والليلة، أَمَرَهم بالمحافظة عليها، وجعلها عليهم كتابًا موقوتًا، بها يناجون ربهم، وبها يقومون بواجب العبوديَّة التي خُلِعَتْ حلَّتها على نبيِّهم في تلك الليلة، وبها يتغلَّبون على الشهوات والأهواء، وبها تُغْرَس في قلوبهم مكارم الأخلاق، ويُطَهِّرون نفوسهم من صفات الجبن والبخل والهلع والجزع، وبها يستعينون على مشاقِّ الحياة كما استعان محمد صلى الله عليه وسلم بها على مشاقِّ الحياة ومصائب القوم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ البقرة: 153]، {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19-23].
الصلاة.. لم يفرضها الله I كما فرض غيرها من الواجبات والأركان، وإنما فرضها في كوكبة من الملأ الأعلى، وفي جذوة من الإشراق والأنوار؛ تنويهًا بشأنها، ورمزًا لمكانتها.
فلنذكر كلَّ ذلك، ولنذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نال فخر الإسراء، كان يحنُّ دائمًا إلى مناجاة ربِّه والوقوف بين يديه، حتى كان لا يجد لذَّة إلاَّ في تلك المناجاة، فهو القائل: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ". فهي طهرة للقلب، ومعراج للربِّ، وإسراء إلى ساحة الفضل، فمن شاء أن يسري به ربُّه، وأن تعرج به ملائكة الرحمة، فليحافظ عليها، وليُدِمْ مناجاة ربِّه بها، وليُحسن وقوفه بين يديه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
ونختم بأنه إذا كان لنا أن نذكر حادث الإسراء، فإنما نذكره أوَّلاً في حدود اليقين والاطمئنان لا في متَّسع الظنون والاضطراب، وأن نذكره ثانيًا بقلوبنا، وفي أوقاتنا كلها بما يُرشِد إليه من إيحاء ننتفع به في حياتنا على توالي السنين والأجيال...
وإنَّ حادث الإسراء بعد كونه تثبيتًا وتكريمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإعدادًا لقواه النفسيَّة والعقليَّة والجسميَّة لتحمُّل أعباء الرسالة العامَّة، وخذلان أعدائه، وعلوِّ كلمته، هو بعد ذلك كلِّه يوحي للمسلمين بمكان بدئه وهو المسجد الحرام، ومكان نهايته وهو المسجد الأقصى، يوحي بمهابط الوحي الأوَّل الذي تلقَّاه إبراهيم وإسماعيل، ومهبط الوحي الثاني الذي تلقَّاه موسى وعيسى، وأنها كلها مهابط الرسالة الإلهية التي جاء محمد صلى الله عليه وسلم لتكميلها والهيمنة عليها، وأن تلك الرسالات -وإن اختلفت أزمنتها، وتعدَّدت رسلها- واحدة في دعوتها وغايتها، وأن الرسل جميعًا الذين اصطفاهم الله لتبليغها بُنَاة بيت واحد، يضع آخر لبنة فيه خاتمهم محمد بن عبد الله، صاحب الإسراء والمعراج.
إذا، فلا بُدَّ أن يخفق على هذه الأماكن جميعها علم التوحيد والإيمان، على النحو الذي جاء في رسالته، ولا بُدَّ أن تطهر رقعتها من بذور الشرك والوثنيَّة والظلم والفساد، وأن يعلو فيها سلطان الحقِّ وعدالة السماء.
موقع "قصة الإسلام"