أنت هنا
إضافة تعليق
إن وجود القدوة الحسنة في حياة الأمم والشعوب والدعوات ضرورة حتمية، ليُقتدَى بها وتُكتسب منها المعالم الإيجابية في الحياة، سواءٌ مع الله تعالى في أداء العبادات والفرائض، أو مع النفس وتزكيتها وتربيتها على الأخلاق الفاضلة، أو مع الأهل والأبناء داخل الأسرة من أجل بناء أسرة متماسكة، أو مع المجتمع في أمور الدين والدنيا.
لذلك جعل الله تعالى الرسولَ صلى الله عليه وسلم قدوةً ونموذجًا يجسِّد الدين الذي أُرِسَل به، حتى يعيش الناس مع هذا الدين ورسوله واقعًا حقيقيًّا بعيدًا عن الأفكار المجردة، فكان هذا الرسول عليه الصلاة والسلام خيرَ قدوة للأمة في تطبيق هذا الدين، ليكون منارًا لها إلى يوم القيامة، لذا فإنه يجب على كل مسلم الاقتداء والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم; فالاقتداء أساس الاهتداء، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21)) (الأحزاب: 21).
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوةً كاملةً في جميع جوانب سيرته، إيمانيًّا وعباديًّا وخُلقًا وسلوكًا وتعاملاً مع غيره، وفي جميع أحواله، كانت سيرته مثاليةً للتطبيق على أرض الواقع، ومؤثرةً في النفوس البشرية؛ فقد اجتمعت فيها صفات الكمال وإيحاءات التأثير البشري، واقترن فيها القول بالعمل، ولا ريب أن القدوة العملية أقوى تأثيرًا في النفوس من الاقتصار على الإيحاء النظري؛ لهذه العلة أرسل الله تعالى الرسل ليخالطهم الناسُ ويقتدوا بهداهم، وأرسل الله سبحانه الرسولَ صلى الله عليه وسلم ليكون للناس أسوةً حسنةً يقتدون به، ويتأسون بسيرته.. (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)) (الأنعام).
ذلك أن القدوة لا تزال مؤثرةً، وستبقى مؤثرةً في النفس الإنسانية، وهي من أقوى الوسائل التربوية تأثيرًا في النفس الإنسانية، لشغفها بالإعجاب بمن هو أعلى منها كمالاً، ولأنها مهيأة للتأثر بشخصيته ومحاولة محاكاته، ولا شك أن الدعوة بالقدوة أنجح أسلوب لبثِّ القيم والمبادئ التي يعتنقها الداعية.
فهم الشعار
إن المصطفى الكريم هو إمام الدعاة، وهو القدوة والأسوة والمعلم والمربي الحكيم؛ الذي أمر الله تبارك وتعالى باقتفاء نهجه، وأن نقتدي به في عبادتنا ودعوتنا وخلقنا وسلوكنا ومعاملاتنا وجميع أمور حياتنا، قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108).
هكذا يجب فهم شعار وهتاف "الرسول قدوتنا" كمنهاج حياة؛ فمنهج الإسلام يحتاج إلى بشر يحمله ويترجمه بسلوكه وتصرفاته، فيحوِّله إلى واقع عملي محسوس وملموس، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم الصورة الكاملة للمنهج.
وهكذا ينبغي أن نتعامل مع هذا الشعار "الرسول قدوتنا" كمشروع للتطبيق العملي علينا قبل غيرنا، اقتداءً به صلى الله عليه وسلم في جميع مناحي حياتنا، وما المناهج والبرامج العملية والحركات والسكنات إلا لتحقيق هذا المشروع عمليًّا، وتحويله لواقع ملموس يُرى أثره عليهم سلوكًا وتطبيقًا.
لذا وجب الاقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم على جميع مسارات الحياة دون استثناء؛ في البيت والمجتمع والقيادة والدعوة والإرشاد، والعمل الحثيث على تحقيق هذا الاقتداء والتأسي.
قدوة في بيته
إن على أفراد الأمة بكل فئاتها وطوائفها اتباع منهج النبي الداعية، في بيته ودعوته وسيرته ومسيرته، والتخلق بأخلاقه، والتعامل مع الأهل والأصحاب، كما تعامل النبي الأمين، وفي هذا رضاء لله واستجلاب لثواب الاقتداء بخير خلق الله.
فلقد انبثقت سائر أعماله عليه الصلاة والسلام من قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، وكان هذا الخلق واضحًا جليًّا في سيرته العطرة في جميع مناحي حياته الأسرية مع زوجاته وبناته؛ حيث كان يحدِّثهم بأطيب الكلمات وأرقِّ التعابير، وكان يلاعبهم ويلاطفهم، ويُدخل السرور على قلوبهم، ويعدل بينهم ولقد وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خُلق النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت: "كان خلقه القرآن".
قدوة في مجتمعه
لقد كان عليه الصلاة والسلام على درجة رفيعة من الخلق والوعي الكبير والحب العظيم في التعامل مع مجتمعه، فلم يكن يستعلي على أحد منهم، يقابلهم بالوجه الحسن المبتسم، ويشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، ويهتمُّ بقضاياهم، ويسعى لحلها، ويساوي بينهم جميعًا دون تمييز أو تفريق، عربًا كانوا أو عجمًا، صغارًا كانوا أو كبارًا، ومن هنا استمد المجتمع قوته وصلابته واستحالته على الهزيمة والانكسار.
لذا يجب أن يقتدي المجتمع المسلم بجميع عناصره بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا يتكبَّر على عباد الله ولا يظلمهم ولا يغشهم ولا يصعِّب أمورهم، ويتواصى بالحق ويتواصى بالصبر ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ حتى يطمئن الناس إلى بعضهم البعض، وتزداد ثقتهم ببعض، فيزول من المجتمع البغض والكراهية، ويحل الوئام والمودة، ومن ثم ينتصر ويحقق ما يرنو إليه من آمال وطموحات.
قدوة كحاكم وقائد
في هذا العصر أهدِرت حقوق الإنسان وحريته، واستُبيحت حرماته، وحلَّت الوحشية محلَّ الرحمة، والرذيلة محلَّ الفضيلة، وجميعها معاول هدم ودمار على العالم، هي في الحقيقة من نتائج غياب عدم الاقتداء والتخلق بالأخلاق والقيم التي جاء بها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، واستئثار القادة والحكام بمصالحهم الشخصية وتسلطهم وتجبُّرهم في استخدام سلطاتهم وتغوُّلهم على حقوق شعوبهم.
لقد عُني المصطفى صلى الله عليه وسلم بالفرد كأساس لقيام الدولة والمشروع كله تربيةً وتنشئةً وتقويمًا، ومن ثم أرسى في المجتمع أسس العدل والحرية والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، مسلمين وغير مسلمين، ولقد أدهشت العالمَ معاملةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعدائه وهو متمكِّنٌ منهم، فلم يظهر في التاريخ أرحمُ منه مع أعدائه، رغم ما كان يلاقيه منهم من الأذى والعذاب والتشريد.
وكان صلى الله عليه وسلم القائد المتواضع الرقيق؛ الذي يسهر على مصالح الناس، ويستشعر قدر المسئولية الملقاة على عاتق المسئول، ويغرس هذا الفهم في النفوس؛ فهو القائل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته".
وعلى هذا ربَّى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أصحابه، فلما تولَّوا أمر الناس من بعده جعلوه قدوتهم في ذلك، فعزُّوا وسعدوا وأعزُّوا أمتهم ودينهم، فهذا عمر رضي الله عنه كان حينما يعطي عماله- أي الذين سيتولون أمور الناس- خطابَ التكليف.. يقول لهم: "أيها الناس.. إن الله عظَّم حقه فوق خلقه"، ثم يقول: "إني لم أبعثكم أمراء ولا جبابرة، ولكن بعثتكم أئمة الهدى يُقتَدى بكم، فلا تمنعوا الناس حقوقهم فتظلموهم".
قدوة في الإصلاح والتغيير
كأن الزمان قد استدار كهيئته يوم وُلِد وبُعِث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالأوضاع الفاسدة والأعراف البالية التي واجهها لا تختلف كثيرًا عن الأعراف والقيم التي تعيشها البشرية في الفترة الراهنة، غير أنها قد أخذت شكلاً مغايرًا حينما اكتست ثوب التقدم العلمي، وتزيَّنت بزخارف المدنية الحديثة.
فلقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم أوضاعًا سياسية غاية في الفساد، على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، ولمواجهتها وتغييرها أعلن منذ البداية أنَّ الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة هما وحدهما طريق الإصلاح وسبيل التغيير، وأرسى منذ اللحظة الأولى أهم قاعدة للإصلاح والتغيير حين قال: "يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تُفلُحوا"، وظل صلى الله عليه وسلم يغرس الإيمانَ في القلوبِ ويزكِّي به النفوس ويطهِّر به الأفئدة، ويُقيم به بعد ذلك دعائم الدولة.
وهذه كانت نقطة الانطلاق لتحقيق التغيير والإصلاح على كافة الجوانب وفي مستوياتها المختلفة، على أساسٍ متين من الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة في قلوب أفرادٍ ربانيين، أنشؤوا مجتمعًا صالحًا إيمانيًّا، ودولةً فاضلةً ربانيةً، غيَّرت وجه التاريخ.
كيفية الاقتداء
إنَّ أوَّل خطوة على طريق الاقتداء بالنبي الكريم هي أن نعرف بمن نقتدي وفيما نقتدي به، وذلك بمدارسة سيرة النبي الكريم وسنَّته؛ حتى نتعلَّم كيف كانت حياته، وكيف كانت معاملاته، وكيف كان يسير في جوانب حياته كلِّها، فإنه صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الوحيد على وجه البسيطة الذي كانت حياته كلُّها كتابًا مفتوحًا للجميع، فلم يكن في حياته الجانب الخاص الذي لا يعرفه الناس، بل إنَّ حياته من أصغر صغيرةٍ وأخصِّ خصِّيصةٍ فيها كانت معروفةً لأصحابه، بل إنَّها دُوِّنت حتى تقرأها أمَّته من بعده إلى قيام الساعة.
فالواجب علينا الارتباط بالمنهج والقيم الثابتة فيه، ومحاولة تكييف حياتنا بما فيها من تنويعاتٍ مختلفةٍ؛ كي تتواءم وتتماشى مع هذه القيم الثابتة حتى نجعلها حاكمةً لحياتنا، كما يجب أن نستخرج من خلال قراءتنا لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم روحه في التعامل مع الأمور، لذا ينبغي أن تكون قراءتنا لحياة نبينا قراءةَ الباحث عن المنهج الذي يضبط له أموره.
ولا يجب أن يكون اقتداؤنا بالنبي صلى الله عليه وسلم في جانبٍ دون آخر، أو تكون تعاملاتنا خلاف منهجه، فعلينا الاقتداء الشامل بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم في كافة الجوانب وبذل أقصى جهد لتحقيق ذلك.
إنَّ الاقتداء الحقيقي بالنبي صلى الله عليه وسلم يتطلَّب منَّا: العمل بسنته باطنًا وظاهرًا، وحبًّا لصاحب المنهج، ومعرفةً بمنهجه الذي نريد الاقتداء به فيه، ووعيًا بالقيم العظيمة التي نستلهمها من حياته، والتدرُّج بالنفس شيئًا فشيئًا حتى تكون صبغتها الدائمة هي الحياة على المنهج النبوي، والاسترشاد بمن اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم من المصلحين والدعاة، ومحاولة التزام الصحبة الصالحة التي تعين على الثبات على هذا النهج.
ولا ننسى أن نكثر دومًا من الصلاة والسلام على النبي الخاتم صلى الله وسلم وبارك عليه، ولا ننسى أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أصلٌ من أصول الإيمان الذي لا يتم إلا به.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين"، وقال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء: 69) فلا بد من تحقيق المحبة الحقيقية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتقديم محبته وأقواله وأوامره على من سواه "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُهُ أَحَبَّ إليه مما سواهما..".
واتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به دليلٌ على محبة العبد لربه، وبها سينال محبة الله تعالى، وفي هذا يقول الله عز وجل: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31).
والخلاصة..
يجب أن نقتدي بالمصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم في كل خطوة وعمل، وأن نكون كما يحب ربنا ويرضى، وأن نتمثل بالحبيب في كل الأوقات والأحايين.
فلنعايش كتاب الله وسنة المصطفى عمليًّا، ولنستخرج منهما العبر والدروس، ونطبقها على أنفسنا قبل غيرنا، وأن نبذل غاية ما في وسعنا لتحقيق النموذج القدوة ولنتمثل شعار "الرسول قدوتنا" ونحوِّله إلى حقيقة واقعة في نفوسنا وواقعنا، وعلينا الاستعداد الذاتي المتمثِّل في طهارة القلب وسلامة العقل واستقامة الجوارح.
ولنتبنَّ ما يمكن تسميته بـ"ورد الاقتداء"، وهو أن نبدأ بتطبيق ما نتعلَّمه منه صلى الله عليه وسلم بشكلٍ تدريجيٍّ ومحاسبة أنفسنا على ذلك، وأن نجعل لنا تقييمًا ذاتيًّا بشكلٍ مستمر، وفي كلِّ أفعالنا نسأل أنفسنا: ما الذي كان سيفعله المصطفى لو كان في مثل هذا الموقف؟!
وبهذا يظل الرسول صلى الله عليه وسلم حيًّا في نفوسنا وضمائرنا، باقتدائنا وتأسينا به في كل خطوة من خطواتنا وسكنة من سكناتنا.
اتحاد "الرائد" - القسم الثقافي