أنت هنا
إضافة تعليق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين، وبعد:
ونحن نقف على أعتاب عام هجري جديد كان لابد لنا من وقفة مع حقيقة الهجرة تلك التي كانت فاتحة مجد الإسلام, ومبتدأ عزة المسلمين, نقف مع الهجرة لا على سبيل السرد القصصي, ولا الإنشاء الوعظي, ولكن سبراً لأغوارها, ووقوفاً على أسرارها, وتلمساً لحقيقتها وتأملاً في فقهها. إذ لو لم تكن الهجرة معنى عظيما, وشأنا جسيما ما أُرخ بها تاريخ الإسلام والمسلمين. فقه الهجرة من خلال أربعة محاور:
الأول: تعريف الهجرة.
الثاني: الهجرة سنة كونية.
الثالث: الهجرة فريضة شرعية.
الرابع: فقه الهجرة.
يقول ابن الأثير: الهِجْرة في الأصْل : الاسْم من الهَجْرِ ضِدّ الوَصْلِ . وقد هَجَره هَجْراً وهِجْراناً. ثُم غَلَب على الخُرُوج من أرض إلى أرض وتَركِ الأولى للثَّانية . يُقال منه : هاجَر مُهاجَرةً [النهاية في غريب الأثر]. قلت ونستطيع أن نعرف الهجرة بمعناها الأوسع بأنه: ترك الأماكن أو الأشياء أو الأشخاص أو الأفكار أو الأخلاق أو الحالات إلى أماكن أو أشياء أو أشخاص أو أفكار أو أخلاق أو حالات أخرى. فترك اليمن إلى السعودية هجرة أماكن, وترك المشروبات الغازية إلى الحليب هجرة أشياء, وترك رفيق السوء إلى رفيق الخير هجرة أشخاص, وترك الاستبداد إلى الشورى هجرة أفكار, وترك البخل إلى الكرم هجرة أخلاق, وترك الانطوائية إلى الاجتماعية هجرة حالات. ومن هنا يتضح لنا أن للهجرة أبعادها المادية والمعنوية. ولمزيد من الإطلاع على أهمية الهجرة كمبدأ من مبادئ الحياة ننطلق إلى المحور الثاني وهو:
الهجرة سنة كونية:
لقد دعانا المولى عز وجل إلى التأمل في كتاب الكون المنظور, تماما كما أمرنا بتلاوة كتابه المسطور قال سبحانه:" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)" آل عمران.
وبإعمال هذه الآية, نظرا في الكون, وتفكرا في الملكوت نجد الهجرة في كل ما حولنا من الذرة إلى المجرة فالأرض التي نعيش عليها تهاجر حول نفسها كل يوم مكونة الليل والنهار, كما تهاجر حول الشمس كل سنة, مكونة الفصول الأربعة, والشمس تهاجر حول مركز مجرة درب التبانة خلال 225 مليون سنة، مما يعني أن الشمس ومعها مجموعتها قد هاجرت تقريباً 20 هجرة منذ نشأة المجموعة الشمسية . وكما تهاجر الشمس فإن القمر أيضا يهاجر حول الأرض وقد وصف الله هجرة الشمس والقمر هذه فقال :" وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)" يس.
ومجرة درب التبانة مع غيرها من المجرات تهاجر هي الأخرى هجرة عظيمة من حيث الزمان والمكان ففي عام 1929 اكتشف ادوين هابل أن المجرات في تباعد مستمر عن بعضها البعض بسرعات هائلة قد تقترب في بعض الأحيان من سرعة الضوء وأنها تبتعد بسرعات متناسبة مع المسافة التي تفصل بينها، وهذا يعني أن الكون في توسع وتمدد مستمر. أي في هجرة دائمة مستمرة وذلك مصداقا لقوله تعالى:" وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)" الذارايات.
ـ وإذا انتقلنا إلى عالم الأحياء وجدنا الهجرة في أظهر صورها فهذه إناث السلاحف المائية الخضراء تسبح كل عامين أو ثلاثة أعوام لمسافة قد تبلغ 2000 كم إلى الشواطئ الرملية التي فَقَسَتْ فيها لوضع بيضها.
ـ فإذا نظرنا إلى الأسماك رأينا أسماك السالمون مثلاً تولد في أعالي مجاري الأنهار ولكنها سرعان ما تهاجر إلى المحيطات. وبعد سنوات عديدة، تعود إلى الأماكن التي ولدت فيها في أعالي مجاري الأنهار للتكاثر. وتموت أسماك سالمون المحيط الهادئ مباشرة بعد وضع البيض، ولكن تعود بعض أسماك سالمون المحيط الأطلسي مرة أخرى للمحيط للتكاثر، وتفعل ذلك ثلاث مرات خلال حياتها.
ـ أما الطيور المهاجرة فلها والهجرة شأن عجاب، فبعض الطيور تقطع مسافة 2700 كيلومتر فى طيران مستمر يستغرق 60 ساعة، وبعض الطيور تقطع مسافة 14.000 كيلومتر، والبعض الآخر يسافر لمسافة تصل إلى 16.000 كيلومتر.أما عن أطول رحلة سجلت للطيور فهى 22.000 كيلومتر من المحيط المتجمد الشمالي إلى جنوب أفريقيا. ويقال أن الخطاف القطبي يهاجر لمسافة حوالي 35,000 كم سنويًا.
وقد سجل القرآن الكريم هجرة طائر الهدهد من فلسطين إلى اليمن قال عز وجل عن سليمان :" وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)". النمل
فإذا كان هذا شأن الحيوان فإن شأن الإنسان مع الهجرة قديم عريق, إذ بدأ الإنسان مهاجرا فيما يسمى بالحياة البدائية, ثم حياة البداوة التي لا تعرف الاستقرار, وهاهي مدنية اليوم تعزز في الإنسان غريزة الهجرة, حتى صارت إحدى أهم سمات هذا العصر, ولا أدل على ذلك من الهجرات العظيمة التي أعادت وتعيد تشكيل الخارطة السكانية لأكثر قارات ودول العالم اليوم.
ولا ننسى جميعاً في ختام هذا المحور أننا معشر بني آدم مهاجرون شئنا أم أبينا في رحلة تبدأ من عالم الأصلاب, مرورا بعالم الأرحام, وصولا إلى عالم الدنيا, وتوقفا عند عالم البرزخ, وانتهاء بعالم الآخرة. قال تعالى واصفاً هذه الرحلة:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) " الحج.
أحبتنا الكرام: أما الهجرة كفريضة شرعية فتظهر بوضوح من خلال التالي:
ـ ذكرت مادة الهجرة ومشتقاتها في القرآن الكريم [31] مرة.
ـ وما من نبي إلا وهاجر: فهذا نوح مهاجرًا:" وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ.." هود, وإبراهيم هاجر من العراق إلى الشام , ثم إلى مصر ثم عاد إلى الشام, ولوط هاجر إلى سدوم ثم هاجر منها :" فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)" العنكبوت,ويوسف هاجر إلى مصر:" وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا..". وموسى هاجر إلى مدين أمنيً, ثم عاد إلى مصر دعوياً, ثم هاجر منها صوب بيت المقدس سياسياً.
ـ وكما هاجر كل أولئك الرسل الكرام فقد هاجر محمد صلى الله عليه وسلم اقتصادياً مرتين مرة مع عمه أبي طالب, ومرة وحده في تجارة لخديجة بنت خويلد, كما هاجر دينياً وسياسياً إلى المدينة المنورة قال تعالى:" إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)" التوبة.
ـ وكما هاجر خير خلق الله من الأنبياء والمرسلين فقد هاجر خير الناس بعدهم وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرتين إلى الحبشة, وهجرة إلى المدينة. وهذه هجرات سياسية أما هجراتهم الاقتصادية فكثيرة جداً. وأما هجراتهم العلمية فأكثر. وأما هجراتهم الجهادية فأكثر وأكثر.
ـ وقد علت منزلة الهجرة الخيرة مطلقاً حتى جمع الله بين الهجرتين الاقتصادية والجهادية في سياق قرآني واحد فقال:" .. وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ".
وقد وعد الله المهاجر في سبيل الله بالتوسعة عليه فقال:" وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً" النساء.
وجعل سبحانه الهجرة في سبيل الله رافعة للدرجات, محققة للفوز بأعلى المقامات :" الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)" التوبة.
وربط بها رحمته ومغفرته :" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)".البقرة
بل جعل القدرة على الهجرة حجة على من أقام على الظلم ولم يهاجر :" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)". النساء
ورغم أن الهجرة من مكة إلى المدينة قد انتهت بقوله صلى الله عليه وسلم:" لا هجرة بعد الفتح.." إلا أنه أبقى أصل الهجرة وهي الهجرة النفسية فقال في تمام الحديث:" و لكن جهاد و نية و إذا استنفرتم فانفروا" صحيح الجامع .
وأكد بقاء مبدأ الهجرة وديمومته فقال صلى الله عليه وسلم:" إن الهجرة لا تنقطع ما دام الجهاد". صحيح الجامع .
فأي فقه إذن يمكن أن نستنبطه من كل ما مضى: إن فقه الهجرة يقول لنا:
1- الهجرة سنة كونية, فريضة شرعية, وهي باقية إلى يوم القيامة.
2- الهجرة أوسع مدلولا, وأعمق مفهوماً, من الانتقال بين الأمكنة.
3- الهجرة تبدأ من الذات, وتنطلق من النفس وهي مقتضى قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ".
5- وحقيقة الهجرة النفسية: التوبة بأفقها الواسع. ومجالها الشاسع وقد ربط بينهما صلى الله عليه وسلم فقال:" لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة و لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" . صحيح الجامع .
6- وتظهر الهجرة النفسية"توبة وتغييرا" في أعمال الجوارح قال صلى الله عليه وسلم:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"( صحيح )
7- وهذه الهجرة النفسية هي أدنى مراتب الإيمان قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ". [صحيح مسلم].
8- والهجرة النفسية شرط للهجرة البدنية وقد بدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجر الشرك نفسيا قبل أن يهجره بدنيا وكان من ذلك تبتله الليالي ذوات العدد في غار حراء.
9- ومن هاجر ببدنه قبل أن يستكمل هجرته النفسية فلربما انتكس, وقد جاء رجل إلى أحد كبار السلف يقول له علمني فلقد سافرت إليك من مكان بعيد فأجابه العالم:" أن هذا الأمر لا ينال بقطع المسافات. فارق نفسك شبرا يحصل لك مقصودك".
وحين هاجر عبيد الله بن جحش إلى الحبشة قبل أن تكتمل هجرته النفسية , انتكس فارتدَّ وتنصر هناك ومات نصرانيا والعياذ بالله.
إننا في أشد الحاجة اليوم إلى استحضار فقه الهجرة بما يحمله هذا الفقه من معاني التوبة الدينية والدنيوية, والتغيير الشخصي والحضاري, إنْ على المستوى الفردي أو الجماعي, بحاجة إلى أن نهاجر معاً من الشك إلى اليقين , ومن الشرك إلى التوحيد, ومن البدعة إلى السنة, ومن الجهل إلى العلم, ومن الفوضى إلى النظام, ومن العشوائية إلى التخطيط, ومن الإحجام إلى الإقدام, ومن السلبية إلى الإيجابية, ومن الفردية إلى الجماعية, ومن التكتيكية إلى الإستراتيجية, إننا دين هجرة, وثقافة هجرة, وتاريخ هجرة, وأمة هجرة. لا تجمد كالجمادات, ولا تركد كالمستنقعات, ولا تهمد كالأموات, بل تهب كالرياح, وتتصاعد كالأبخرة, وتسافر كالغيوم, وتهطل كالأمطار.
شعارها قول الشافعي:
ما في المقام لذي عقل وذي أدب *** من راحة فدع الأوطان واغترب
سافر تجد عوضا عمن تفارقه *** وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده *** إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست *** والسهم لولا فراق القوس لم يُصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة ***
والتبر كالترب مُلقىً في أماكنه ***
وكل عام هجري جديد وأمتنا في هجرة، وكل عام هجري جديد وأمتنا في توبة، وكل عام هجري جديد وأمتنا في تغيير.