أنت هنا
إضافة تعليق
الوسطية سمة هذه الأمة، وبها تُعْرف دون الأمم، بل هي ميزة ميزها الله تعالى بها على غيرها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «قد خص الله تبارك وتعالى محمدًا صلى الله عليه سلم بخصائص ميّزه الله بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شِرْعة ومنهاجًا أفضل شرعة، وأكمل منهاج مبين، كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس؛ فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها، وأكرمها على الله من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطًا عدلا خيارًا؛ فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله وكتبه، وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام».
ومع كون الوسطية سمة من سمات الأمة، فإنه يتنازعها - في الواقع - عديد من الأطراف، منهم الجافي والمغالي، ومنهم من يأخذ بها في طرف دون طرف، بل تستخدم الوسطية أحيانًا لتمرير بعض المفاهيم الخاطئة، وتلبيس الحق بالباطل، أو توظَّف لأغراض ظاهرها الدين وباطنها الدنيا، وتضيع الوسطية بين الإفراط والتفريط.
ومن هنا كان من المهم بيان الوسطية ومجالاتها ومنهجها في هذه السطور...
مفهوم الوسطية
ليس المقصود بالوسطية أنها ملتقى الطرفين دائما; لأن هذه الأمة آخر الأمم، وإنما المقصود بها أن هذه الأمة أمة وسط؛ أي خيار عدول، لقوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة».
والوسطية حالة محمودة تدفع صاحبها للالتزام بهدي الإسلام دون انحراف عنه، أو تغيير فيه، بل تستقي الهدي الصادق من النبع الصافي؛ لتجعل الأمة عادلة تقيم العدل بين الناس، وتنشر الخير، وتحقق عمارة الأرض بوحدانية الله، والإخاء الإنساني بين البشر، فيعطى في ظل الإسلام كل ذي حقٍّ حقَّه.
وقد أشار القرآن إلى وسطية الخيرية في آيتين من خمس آيات نصت على لفظة الوسطية، الأولى في قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"، والثانية في قوله تعالى: "قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ"، أوسطهم: أعدلهم وأرجحهم عقلا.
كما أن الوسطية تعني أعدل الأحوال، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم للثلاثة رهط، حين تقالُّوا عبادةَ النبي، فقال لهم: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وقد فهم الصحابة والسلف ذلك المعنى من الوسطية، فنقل عن الإمام علي - رضي الله عنه - قوله: «عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل». وفي رواية: «يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي».
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إنّ من أحب الأمور إلى الله القصد في الجدة، والعفو في المقدرة، والرفق في الولاية، وما رفق عبدٌ بعبد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة».
وقد عنى النبي صلى الله عليه وسلم بالوسطية – أيضا - أنها البعد عن الشطط والانحراف واللغو، فقال صلى الله عليه مسلم: «وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا، إنما بعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسرين».
وقد تنادت أصوات العلماء حديثًا تدعو الأمة للرجوع إلى الوسطية، فيرى العلامة القرضاوي والدكتور عمارة الوسطية نوعًا من التوازن في كل شيء، وهي لا تعني -كما يشير الدكتور عمارة- شيئًا هلاميًّا، بل هي الموقف الأصعب.
ويلمح صاحب الظلال إلى وسطية الأمة بالشهادة على الأمم الأخرى، وبيَّن ملامح هذه الوسطية ومجالاتها؛ فهي أمة وسط: في التصور والاعتقاد.. وفي التفكير والشعور.. وفي التنظيم والتنسيق.. وفي الارتباطات والعلاقات.. وفي المكان والزمان...
ويراها الشيخ الجزائري أنها الأمة العدول، وهو أيضًا ما ذهب إليه الشيخ السعدي.
ويقابل مفهوم الوسطية الغلو والمغالاة والتطرف، وهي أمور منهي عنها شرعا.
معالم الوسطية
وهناك معالم لتلك الوسطية، أهمها:
1- توحيد مصادر المعرفة: وذلك بالجمع بين الوحي والعقل؛ فالوحي هو مصدر التشريع، والعقل له دور في فهم الوحي، كما أنه مصدر من مصادر المعرفة البشرية العامة في الحياة، كما أنه يجمع بين علوم الشريعة وعلوم الحياة، وبعلوم الشريعة يستقيم دين الأمة، وبعلوم الحياة تستقيم حياتها.
2- التلازم بين الظاهر والباطن: فيجمع بين الاهتمام بأعمال الجوارح وأعمال القلوب، أو ما يعرف بفقه الظاهر وفقه الباطن.
3- الاتباع في الدين، والإبداع في أمور الدنيا.
4- صحة النقل وصراحة العقل: فيجمع بين منهجي مدرسة الرأي ومدرسة الأثر.
5- الجمع بين عمارة الحياة والسمو الروحي: فيتولد عنه الاتزان بين متطلبات الجسد والروح، وتكون الدنيا مزرعة الآخرة، ويجمع بينهما وَفْقَ منهج الله.
6- الاجتهاد الصادر من أهله وفي محله: فلا هو يغلقه كلية، ولا يفتح لكلِّ أحد.
7- الثبات في الأهداف والمرونة في الوسائل.
8- التوازن في التعامل مع التراث احترامًا بين التقديس والتبخيس.
9- التكامل في بناء الإنسان عقلا وروحًا وجسدًا ووجدانًا بصورة متوازنة.
10- قوة المضمون وجمال العرض والأسلوب: فكم من الجواهر الحِسَان ضاعت لسوء عرضها، وكم من الناس غشَّ الآخرين ببضاعته المزجاة؛ لأنه أحسن عرضها.
11- الجمع بين التهذيب والتأديب: ولهذا جعل الماوردي صلاح الدنيا بستة أشياء، منها: دين متبع وسلطان قاهر.
12- تحرير المرأة من الوافد المستلب ومن التقليد الموروث: وذلك أن القضية اكتنفها طرفان: طرف يريد للمرأة الانسلاخ من القيم، وآخر يُكْرهها على عادات وتقاليد لا علاقة لها بالشرع، والوسط أن يعيش كل من المرأة والرجل وفق منهج الله.