أنت هنا
إضافة تعليق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين...
محمد صلى الله عليه وسلم هو الأعظم، إنه بحق الأعظم، كيف لا وقد اصطفاه الله على بني آدم، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، أرسله ربه رحمة للعالمين، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
إنه الأعظم، فإذا كان في البشرية من يستحق العظمة فهو محمد، هذا كلام علماء الغرب المنصفين. والمسلمين يؤمنون به ويحترمونه ويوقرونه ويبجلونه. فهو قدوتنا العليا وهو شفيعنا يوم القيامة وقائدنا إلى الجنة.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم يستحق العظمة. كيف لا وقد أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى صراط مستقيم .
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسري به ملجماً مسرجاً، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: أبمحمد تفعل هذا؟ فما ركبك أحد أكرم على الله منه. قال: فارفض عرقا.
إنه رجل واحد في مقابل جميع الرجال، الذي استطاع بنصر الله له وبصدق عزيمته وبإخلاصه في دعوته أن يقف أمام الجميع ليدحض الباطل ويُظهر الحق حتى يحق الله الحق بكلماته ولو كره الكافرون.
إن هذا الرجل العظيم الذي استطاع أن يقف أمام العالم أجمع وأمام جهالات قريش وكفرها العنيد وأمام الأصنام وعبادة الكواكب وكل ما يعبد من دون الله، وقف يدعو الله وحده لا شريك له ونبذ كل ما سواه، إنه بحق لجدير بكل تبجيل واحترام، ليس فقط من أتباعه بل من كل من يفهموا العبقرية وخصائصها.
إن الصفات التي تفردت في هذا الرسول العظيم لجديرة بأن يحصل على نوط الامتياز ويحظى بكل تقدير واحترام. إنه بحق الأعظم .
فهل بعد ذلك يوجد أي رجل أعظم منه؟ كلا، لا يوجد رجل أعظم منه، فقد عاش حياته كلها في خدمة البشرية جمعاء وجاء بالدين الخاتم والمسعد لجميع البشر .
إن هذا الرجل العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بحق رجل لم تنجب البشرية مثله، كيف لا وقد قال عنه الجبار: "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"، وقال تعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ".
إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نعمة أنعم الله به علينا فإنه حريٌ بنا حينما نتذكر النعمة نتذكر المنعم بها ونشكره عليها، وهذا الشكر يستوجب منا أن نتمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً لقوله تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ" سورة الأحزاب 21.
فما أعظم هذه النعمة وما أعظمك يا رسول الله وقد منحك الله سبحانه من كمالات الدنيا والآخرة ما لم يمنحه غيره من قبله أو بعده.
وقد أعطاه الله في الدنيا شرف النسب وكمال الخلقة، وجمال الصورة وقوة العقل، وصحة الفهم وفصاحة اللسان وقوة الحواس والأعضاء، والأخلاق العلية والآداب الشرعية من: الدين، والعلم، والحلم والصبر والزهد والشكر والعدل والتواضع والعفو والعفة والجود والشجاعة والحياء والمروءة والسكينة والتؤدة والوقار والهيبة والرحمة وحسن المعاشرة ما لا يستطاع وصفه وحصره.
فما أعظمك يا رسول الله، ولقد صدق ربنا سبحانه وتعالى إذ يقول في شأنك ووصفك: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" سورة القلم 4.
وها نحن نأتي إلى نبذة يسيرة من محاسن صفاته ومحاسن آدابه لتكون لنا نموذجاً نسير عليه حتى نكون على قدم نبينا صلى الله عليه وسلم.
أعميت عيني عن الدنيا وزينتها *** فأنت والروح شيء غير مفترق
إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق *** من أول الليل حتى مطلع الفلق
وما تطابقت الأجفان عن سنةٍ *** إلا وإنك بين الجفن والحدق
تأتي نفحات ذكري المولد العطرة في وقت نجد أمتنا أشد ما تكون إلى بناء حضاري جديد، بناء يستمد مقوماته من المصدرين الأساسيين (القرآن الكريم والسنة المطهرة)، بناء بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ.
وإذا كان كثير من العلماء حصروا أهم مقومات الحضارة في أربع مقوما: البناء العلمي، البناء العقدي، البناءالقيمي، البناء العمراني، فإن المولد النبوي المبارك كان إيذاناً بانطلاق هذه المقومات الأربع.
البناء العلمي
لقد جاء الرسول إلى الدنيا في وقت غلب الجهل فيه على كل شيء، على الفكر والعقل والسلوك وكل شيء، ولم تكن البشرية تعرف مصدراً موثوقاً منه تستقي منه المعارف والحقائق سوى بعض الدجالين من الكهنة والعرافين والمنجمين، اللهم إلا القليل من الصادقين من بقايا أهل الكتاب ومن وصفوا بالحنيفية.
كان أول انطلاقة لمقومات الحضارة التي تمثلت في أهمية: القراءة والكتابة والقلم، وكان أول ما نزل: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" سورة العلق.
لقد جاء ليؤكد على أهمية البحث والتنقيب والنظر والتأمل في الكون كله من سمائه إلى أرضه: "قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ" سورة يونس 101.
ولم يعتبر إلا اليقين؛ حيث إن الظنون لم ولن تصل بأي أمة إلي علم يقنيي. "وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً" سورة النجم 28.
لقد برز أعلام كبار لهم أكبر الأثر في نهضة البشرية وقيام حضارتها، هم من أعلام هذه الأمة أمثال:ابن البيطار(العشّاب الصيدلاني)، والحسن بن الهيثم (الفيزيائي المهندس)، والبيروني (العالم الموسوعي)، والإدريسي (الجغرافي الفذ)، والخوارزمي (الرياضي الفلكي)، وابن سينا (الطبيب الفيلسوف). واقرؤوا إن شئتم عن دور الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوربية.فلولا المولد النبوى الشريف ما كان هؤلاء.
نعم، لقد كان المولد الشريف إيذانا بانطلاق الحضارة الإسلامية.
البناء القيمي
لقد كان مولده إيذاناً بانطلاق منظومة القيم المتكاملة؛ ذلك لأن العرب ما كانوا مجردين من كل فضيلة قيمية، إنما الفضائل والقيم والأخلاق كالكرم والشجاعة وصدق العهد، كانت موجودة، بيد أنه اعتراها بعض الشوائب التي حادت بها عن جادة الطريق.
كانت البعثة النبوية العظيمة ضبطاً لاتجاه بوصلة الأخلاق، وتنقية للشوائب التي علقت بها، وتتميما لكل فضيلة "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" سورة القلم 4، "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ".
ويكفي أن البناء القيمي في الإسلام مهم في بناء أي حضارة؛ لأنه يقوم على أسس وضوابط إذا خلت منه حضارة لم ينفع قانون ولا علم ولا.. ولا...
منها الرقابة الداخلية لله، ومنها لا ضرر ولا ضرار، ومنها تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ومنها...، مثل هذه الضوابط كفيلة ببناء حضارة قوية ومستقيمة وفاعلة في نفس الوقت.
البناء العمراني
لقد كان مولد الرسول الأعظم إيذاناً بانطلاق البناء العمراني، ذلك لأن أصل البعثة جاءت من أجل إقامة حياة كريمة وسعيدة وهانئة.
لقد جاء الرسول وقرأ على الناس "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" سورة البقرة 30.
ثم وضح المطلوب من هذه البشرية (عمارة الأرض)، فقال: "وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ" سورة هود 61، وبين أهم الأسس التي بها تكون عمارة الأرض، والتي منها الأمن؛ حيث قال: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" سورة الأنعام 32، والعامل الاقتصادي؛ حيث قال: "الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ" سورة قريش 4.
وجمع صاحب المولد هذا كله حيث قال: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"، وهذه صورة مصغرة جداً للبناء العمراني عند صاحب المولد .
البناء العقدي
وهو أهم مقوم في البناء الحضاري. لقد جاء الرسول بالعقيدة الصحيحة السليمة الصافية، التي تحسن التصور عن الله، وعن الكون، وعن الإنسان، فترتب على هذا أن أحسن المسلم التعامل مع الإنسان، واستغل تسخير الكون له.
لقد كان الإيمان بالمساواة بين البشر وتحقيق العدل والتكافل الاجتماعي، لأن ربهم واحد، خلقهم من أصل واحد، أوجب عليهم ما يحقق العدل والخير للجميع.
لقد جاء الرسول بعقيدة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقدر خيره وشره. وربط هذه العقيدة بالحركة في الحياة، والانتشار في الأرض. وكانت هذه العقيدة مبعث كل خير عرفته البشرية، فكان ما كان من أمر هذه الأمة، وكان لهذه العقيدة الدور العظيم في بناء الحضارة.
الرحمة المهداة
قال تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" سورة الأنبياء 107، فلولاه لنزل العذاب بالأمة، ولاستحققنا الخلود بالنار، ولضعنا في مهاوي الرذيلة والفساد والانحطاط، "وما كان الله معذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، فوجوده أمان لنا من النار ومن العذاب. قال ابن القيم في جلاء الأفهام: "إنّ عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته :أمّا أتباعه: فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة، وأمّا أعداؤه المحاربون له: فالذين عجّل قتلهم وموتهم خيرٌ لهم من حياتهم، لأن حياتهم زيادة في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كتب الله عليهم الشقاء، فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر، وأمّا المعاهدون له: فعاشوا في الدنيا تحت ظلّه وعهده وذمته، وهم أقل شرّاً بذلك العهد من المحاربين لهم، وأمّا المنافقون: فحصل لهم بإظهار الإيمان حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم واحترامها، وجريان أحكام المسلمين عليهم، وأمّا الأمم النائية عنه: فإن الله سبحانه وتعالى رفع برسالته العذاب العامّ عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
قال أبو بكر بن طاهر: زين الله تعالى محمداً صلى الله عليه و سلم بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله و صفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، و الواصل فيهما إلى كل محبوب، ألا ترى أن الله يقول: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، فكانت حياته رحمة، و مماته رحمة، كما قال عليه السلام: "حياتي خير لكم و موتي خير لكم"، و كما قال عليه الصلاة و السلام: "إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً".
وقال السمرقندي: رحمة للعالمين: يعني للجن و الإنس، وقيل: لجميع الخلق، للمؤمن رحمة بالهداية، ورحمة للمنافق بالأمان من القتل، ورحمة للكافر بتأخير العذاب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو رحمة للمؤمنين وللكافرين، إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة.
وحكى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله عز وجل علي بقوله: "ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين" سورة التكوير 20 ـ 21.
وروي عن جعفر بن محمد الصادق في قوله تعالى: "فسلام لك من أصحاب اليمين"، أي بك، إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد صلى الله عليه وسلم.
عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: أنزل الله علي أمانين لأمتي "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار.
وقال عليه السلام: أنا أمان لأصحابي، قيل: من البدع . وقيل: من الاختلاف والفتن، قال بعضهم: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأمان الأعظم ما عاش، وما دامت سنته باقية فهو باق، فإذا أميتت سنته فانتظر البلاء والفتن.
ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه و سلم، وما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره.
وقال أبو الجوزاء: ما أقسم الله تعالى بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه و سلم، لأنه أكرم البرية عنده.
وقال جعفر بن محمد: من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه، وأقسم بحياته، ونسخ به شرائع غيره، وعرج به إلى المحل الأعلى، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ البصر وما طغى، وبعثه إلى الأحمر والأسود، وأحل له ولأمته الغنائم، وجعله شفيعاً مشفعاً، وسيد ولد آدم، وقرن ذكره بذكره، ورضاه برضاه، وجعله أحد ركني التوحيد.
اتحاد "الرائد" - القسم الثقافي