أنت هنا
إضافة تعليق
الشيخ د. يوسف القرضاوي - رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
روى الطبراني، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يومًا، وقد حضر رمضان: "أتاكم رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فيُنزل الرحمة، ويحطُّ الخطايا، ويستجيب الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهى بكم ملائكته، فأَرُوا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي مَن حُرم فيه رحمة الله عز وجل". (صدق رسول الله).
مشوقات ربانية
يرغب النبي صلى الله عليه وسلم، أمته في استقبال هذا الشهر الكريم، بأفضل ما يكون الاستقبال، كما يستقبل الإنسان ضيفه العزيز عليه، الحبيب إليه، الغائب عنه، كذلك يستقبل المؤمن رمضان ... يستقبلون هذا الشهر المبارك كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، ورغب فيه: "شهر بركة، يغشاكم الله فيه"، أي يحوطكم برعايته وعنايته. ومن مظاهر هذه الرعاية والعناية أن الله يُنزل فيه الرحمة، ويحطُّ فيه الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء.
تنزل رحمات الله في هذا الشهر، فيَغفر الذنوب، ويكفِّر السيئات، فرصة للمسلم يتطهر فيها من أدرانه، ومن غفلات قلبه، ومن أرجاس حسِّه، ومن هواجس نفسه، ومن آثار خطاياه، طوال أحد عشر شهرا مضت عليه.
فرص لتكفير الذنوب
الله سبحانه وتعالى، من فضله وكرمه، جعل للمسلم فرصة يومية، بالصلوات الخمس، يغتسل فيها كما يغتسل الإنسان في النهر الجاري، خمس مرات، فإذا بقي بعد ذلك من دَرَنه، تأتي فرصة أسبوعية، هي فرصة الجمعة، وصلاة الجمعة، ولقاء الجمعة، الذي جعله الله عيدا أسبوعيا للمسلمين، فإذا بقي بعد ذلك من أدرانه شيء، تأتي الفرصة السنوية، الموسم الدوري، شهر رمضان، فيحطُّ الله به الخطايا عن عباده، ويُخرجهم من هذا الشهر طاهرين مطهَّرين.
"مَن صام رمضان إيمانا واحتسابا: غُفر له ما تقدَّم من ذنبه"، و"مَن قام رمضان إيمانا واحتسابا: غُفر له ما تقدَّم من ذنبه".
ومن هنا جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
دعوة الصائم لا ترد
يُنزل الله الرحمة في رمضان، ويحطُّ الخطايا، ويستجيب الدعاء، جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يُفطر، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول: وعزتي، لأنصرنَّك ولو بعد حين".
دعوة الصائم، قريبة من الإجابة، مرجوة الاستجابة ... وخاصة في آخر اليوم، عند الإفطار، فقد جاء في الحديث: "إن للصائم عند فطره دعوة لا تردُّ"، وكان عبد الله بن عمرو راوي هذا الحديث يجمع أولاده عند الإفطار ويدعو الله عز وجل وكان من دعائه أن يقول: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي.
ولا عجب أن ورد في أثناء آيات الصيام في سورة البقرة تلك الآية النديَّة الرقيقة، آية الدعاء: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" البقرة: 186، قبلها آيات الأحكام ... أحكام الصيام، وبعدها بقية آيات الصيام والاعتكاف ...
كل هذا ليرغبنا الله سبحانه وتعالى في أن ندعوه ونحن صائمون، وندعوه عند الإفطار.
يحطُّ الله في هذا الشهر الخطايا، ويستجيب الدعاء، وينظر الله سبحانه وتعالى إلى تنافسنا في الخيرات، وتسابقنا في الطاعات، فيباهي بعباده المؤمنين ملائكة السماوات، يقول: انظروا إلى عبادي كيف تركوا شهواتهم ولذائذهم، وكل ما يرغبون فيه؟ تركوا ذلك من أجلي.
يباهي الله بنا ملائكة السماوات، فأَرُوا الله من أنفسكم خيرا.
الشقي المحروم
هكذا يوصينا رسولنا صلى الله عليه وسلم، ويقول في ذيل الحديث: "فإن الشقي مَن حُرم فيه رحمة الله عز وجل"."لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ" الصافات:61، "وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ" المطففين: 26، "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ" الحديد:21، "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ" آل عمران: 133، هذا هو ميدان التسابق، وهذا هو مجال التنافس، "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا" المائدة: 48.
هذا هو الموسم الذي مَن حصَّل فيه خيرًا من الخيرات ضوعف له أضعافًا لا يعلمها إلا الله عز وجل.
مَن لم يُغفر له في رمضان فمتى يُغفر له؟
لهذا يقول نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم: "فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي مَن حُرم في هذا الشهر رحمة الله عز وجل".
روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وقد حضر رمضان: "إن هذا الشهر قد حضركم، فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرمها فقد حُرم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم".
وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "بُعدًا لمَن أدرك رمضان ولم يُغفر له، إذا لم يُغفر له فمتى؟!".
أي إذا لم يغفر له في رمضان، والمغفرة تُوزَّع ليل نهار، والمنادي ينادي: "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر"، إذا لم يُغفر له الآن، فمتى يُغفر له؟!.
إن الذي يمر عليه رمضان وهو لا زال غارقا إلى أذنيه في شهواته، لا زال سادرًا في معاصيه، لا زال مطموس البصيرة، محجوب القلب عن الله عز وجل، مُغلق الباب بينه وبين ربه، مثل هذا الإنسان المسكين، هيهات هيهات أن يُغفر له ... إذا لم يُغفر له في رمضان، فمتى يُغفر له؟!.
لقد صعد النبي صلى الله عليه وسلم، المنبر يومًا فسمعه الصحابة يقول: "آمين. آمين. آمين". فلما نزل، قالوا: يا رسول الله إنك حين صعدت المنبر قلت: آمين. آمين. آمين. قال: "إن جبريل أتاني فقال: مَن أدرك شهر رمضان ولم يُغفر له دخل النار، فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين".
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أنف رجل ذكرتُ عنده فلم يصلِ عليَّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان فانسلخ قبل أن يُغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يُدخلاه الجنة".
فيا خيبة هذا المحروم البائس، الذى دعا عليه أمين الوحي جبريل، وأمَّن على دعائه محمد صلى الله عليه وسلم.
بعدًا لمَن أدرك رمضان فلم يُغفر له!!
تجُار الدنيا... وتجُار الآخرة
فهذا هو -أيها المسلمون- موسم المغفرة.
هذا هو موسم المتقين، ومتجر الصالحين، وربيع المؤمنين، هذا هو الموسم، موسم تُجار الآخرة.
وللدنيا تُجار، وللآخرة تُجار.
تُجار الدنيا يركبون الأخطار، ويجوبون الفيافي والقفار، ويركبون الأجواء والبحار، ويواصلون سهر الليل بعناء النهار، كل ذلك في سبيل ربح مادي، قد يكون وقد لا يكون.
وإذا كان هذا الربح، فقد ينتفعون به وقد لا ينتفعون...
وإذا انتفعوا به حينًا، فقد يدوم لهم النفع وقد لا يدوم...
وإذا دام لهم، فإنهم أنفسهم لا يدومون...
فهذا هو شأن الحياة، وتلك هي سنة الله في هذه الدنيا...
هب الدنيا تساق إليك عفـوًا *** ليس مصير ذلك إلى انتقال؟
وما دنياك إلا مثل ظل *** أظلك ثـم آذن بالزوال
وصدق الله العظيم: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا" الحديد: 20.
تُجار الدنيا يفعلون ذلك، أما تجار الآخرة فهم: "رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ" النور: 37، إن تجارتهم ليست في اللحم، ولا في الأرز، ولا في التمر، ولا في البُر، ولا في الثياب، ولا في المتاع، إن تجارتهم إنما هي في الطاعات والقربات... أسواقهم المساجد، وفُرصهم ساعات السَّحر، وأيام رمضان ولياليه.
هؤلاء هم تُجار الآخرة، الذين يجدون في هذا الشهر موسمًا يُقبلون فيه على الله، يصومون فيُحسنون الصيام، ويقومون فيُحسنون القيام.
لا يصومون صيام البطن والفرج فحسب، بل صيام الجوارح عن كل ما يغضب الله.
ويقومون القيام، الذي تخشع فيه القلوب، وتطمئن فيه الأصلاب، وتستقر فيه الجبهات، فإنما يقبل الله الصلاة الخاشعة المطمئنة، هؤلاء هم تُجار الآخرة، الذين يجدون في هذا الشهر ربيعًا، وموسمًا، ومتجرًا، فيتزوَّدون منه، لقلوبهم وأرواحهم وأنفسهم، زادًا يُمدُّهم، وينفعهم لأحد عشر شهرًا.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء، الذين قال في شأنهم في كتابه العزيز: "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ" فاطر: 29،30.
موقع الشيخ د. يوسف القرضاوي